الحنابلة في حائل

 



الحنابلة في حائل

كتب أحمد باشا الزهير الزبيري مندوب البصرة للعثمانيين تقريرًا موجزًا رفعه لولاته عن نجد ، كتب فيه عن حائل عدة أسطر مما جاء فيها : ( أن أتباع المذهب المالكي فيها ليسوا قليلين ) ثم قال نفس هذه العبارة عن وادي الدواسر، وأحمد الزهير هذا لم يعرف حائل، وأجزم أنه لم يأتها، بل إنه في هذا التقرير يُشعرك بأنه لم يزر نجدًا، وكأنه تلقى هذه الأوصاف من الرواة ونقلة الأخبار، وهو من أسرة الزهير الحاكمة في الزبير، وكان مندوبًا عثمانيًا للبصرة، وعضوًا في مجلس المبعوثان.

 

ولعل هذا التقرير الذي كتبه الزهير هو الذي جعل أحد الباحثين العراقيين في جامعة الكوفة يقول في بحثٍ كتبه في مجلةٍ علمية عراقية عن حائل ( إن سكان حائل مسلمون يتعبدون المذهب المالكي ) هكذا يقول !

 

 

إلى فقه الإمام مالكٍ المُنتهى كما يقول الذهبي، ولو لم يكن من فضل هذا المذهب إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد، وجعل سدّ الذرائع من أصول المذهب لكفى، لكن لم يكن لحائل من هذا المذهب نصيب، وليس وجودُ نسخةٍ خطيةٍ من مختصر خليل في الفقه المالكي وبعضِ مؤلفاتِ القاضي عياض في حائل دليلاً على وجود مالكيةٍ فيها، وإلا لقلنا فيها أحنافٌ لوجود نسخة خطية من مختصر القدوري الحنفي، ولقلنا فيها شافعية لوجود شروحات النووي، وليس وجود ذلك دليلاً على التمذهب والتعبد لله بهذه المذاهب كما قيل. فنسبة التمذهب بالمالكية في حائل مجرد تخرص له أسبابه عند الزهير الزبيري، وله سببه عند الآخر.

 

 

إن المحيط الجغرافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي يجعل حائل مثيلاً لبقية البلدات في محيطها، ويعكس عليها ما يقوم بها، فحائل ليست ضاحية أندلسية أو على ضفاف الأطلسي حتى تكون مالكية، أو موضعًا لارتحال علماء المشرق كي تكون متعددة المذاهب، لهذا نشأ الفقهُ في حائل نشأةً بسيطة على أيدي فقهاء الحنابلة من نجد، لما انتشر القضاة الذين يفدون إليها من وسط نجد، وكان المذهب السائد في نجد هو المذهب الحنبلي لعوامل وأسبابٍ كثيرة .

 

 

كان الشيخ أحمد بن عبيد قاضي حائل سنة 1242هـ يصف نفسه بالحنبلي، وكذا الشيخ عوض الحجي (ت1304هـ) يقول عن نفسه: ( الحنبلي مذهبًا، الجبلي مسكنًا، السلفي معتقدًا )، ويُلقب القاضي عبد العزيز المرشدي (ت1324هـ) نفسه بالحنبلي ( كما ترى ذلك في الصورة المرفقة )، وكذا الشيخ صالح البنيان (ت1330هـ). بل إن بعض نسّاخ الكتب في حائل يصف نفسه بالحنبلي كما فعل ذلك يحيى بن سليمان العميم فقال ( العميم نسبًا الحنبلي مذهبًا ) في نسخِهِ للعقيدة الواسطية سنة 1286هـ.

 

وقد رآى المستشرقون الذين زاروا حائل هذا وعَلِموه، يقول جورج أوغست فالين المستشرق الفنلندي الذي زار حائل سنة 1264هـ عن قاضي حائل أنه تلقى ( على علماء يُدرسونه فقه المذهب الحنبلي ).

 

ومن الطرائف المرتبطة بالحنابلة قوله عند عدم رؤيته للكلاب في حائل وقراها ( ولا أذكر أني صادفتُ كلبًا في قرية، ولكنها متأكدة من أنها حالما تُشاهد ستُقذف بالحجارة وتُطرد، وقد يكون المذهب الحنبلي المتشدد الذي يأخذ به جبل شمّر هو أساس هذه الكراهية للكلاب ) لأن الحنابلة يتفقون على نجاسة عين الكلب بأكمله كما هو قول جمهور الشافعية أيضًا.

 

 

انتشرت في حائل متون الزاد والروض المربع وكتب الحنابلة الأخرى، حتى تولّع طلابها بها ونظموا فيها وبأئمتها الأشعار.

وقد كان الشيخ سليمان بن عطية المزيني (ت1363هـ) هو الجوهرة الحنبلية في حائل الذي أضاء في سماء الحنابلة نجمًا لامعًا؛ وهو نظمه للزاد في ألف وتسعمائة بيت: روضة المرتاد في نظم مهمات الزاد، وله منظومة نظم فيها كتاب البيوع من دليل الطالب لمرعي الكرمي الحنبلي سمّاها: الحائلية ليُثبت اسم المدينة التي يعشقها بالعلم الذي يعشقه، كما استخرج المسائل التي خالف فيها صاحب الزاد منتهى الإرادات، وقد كان شيخُه عبد الله بن مسلم التميمي آية في الفقه الحنبلي، وعليه نبغت حنبليته.

 

 ونظم الشيخ عبد الرحمن الملق (ت 1380هـ) المعنيين بلقب الجماعة عند الحنابلة فقال:

 

 

إذا قال أصحاب الإمام وأطلقوا ال

جماعة فالمقصود نجل ابن حنبلِ

 

هو الحبر عبد الله يتلوه ستة

أخوه التقي ذو المجد والمنصب العلي

 

وحنبل عالي القدر ذاك ابن عمِّه

كذا الحربي والمروذي والعالم الحلي

 

أبو طالبٍ ذو الفضل والزهد والتقى

كذا نجل ميمون الإمام المفضل

 

جزاهم إله العرش بحبوح جنة

لقد حققوا قول الإمام المبجل

 

 

وقال الشيخ عبد الله الخليفي (ت 1381هـ) في كتاب العمدة لابن قدامة:

هذا الكتابُ العمدةُ  .. للحنبلي عدَّةُ

ألَّفه الموفّقُ  .. حافظُهُ الموفَّقُ

 

وقال في  منتهى الإرادات للفتوحي:

هذا كتاب المنتهى  ..  من حازه حاز النُّهى

أكرم به من عُدةٍ  .. في المبتدا والمنتهى

 

وقرأ تلميذ الخليفي الشيخ ناصر بن عبد الكريم الخياط الثويني (ت1395هـ) الإنصاف للمرداوي على شيخه الخليفي كاملاً قريبًا من ست سنوات، وأنشد قائلا فيه وفي كتبه الأخرى:

 

لقد ألف الإنصاف من هو منصفُ

وقد حرَّر التحرير بالشرح يعرفُ

 

وبالغ في التنقيح لله درّهُ

ففاق العلا هذا العلأ المؤلف

 

فأرجو من الله الكريم يُحلّه

ببحبوحة الفردوس يحيا ويتحف

 

عنيتُ عليمًا ذا الفضائل والتقى

هو ابن سليمان الإمام المثقفُ

 

وناصر الثويني هذا كان يحفظ نظم المفردات في الفقه الحنبلي، ويقول الهندي عنه : ( كان شغوفًا بكتب المذهب ).

 

ولقد كان الشيخ علي بن الشيخ صالح البنيان (ت1399هـ) يأخذ بمشهور قول الحنابلة في إهداء ثواب تلاوة القرآن للميت، وحَدَثتْ في هذا قصة مشهورة ذكرها الهندي في زهر الخمائل.

 

وأمَّا نفائس كتب الحنابلة المخطوطة فقد كان لحائل سهم صائب في ذلك؛ فقد كانت ولا تزال نسخة كشاف القناع بخط مؤلفها البهوتي وكذا نسخة تلميذه عبد القادر الشامي التي نسخها من نسخة شيخه في مكتبات حائل، وكذا كانت في حائل نسخة من المحرر للمجد ابن تيمية ت652هـ نُسخت عن نسخة المؤلف سنة 714هـ.

 

ولا تزال في حائل نسخة من كتاب الشافي المشهور بالشرح الكبير في الفقه الحنبلي لابن أبي عمر المقدسي ت682هـ، نُسخت سنة 743هـ، وهي من أوقاف حمود بن عبيد آل رشيد.

 

وقد أوقف عبيد بن علي آل رشيد على طلبة العلم في حائل سنة 1265هـ نسخة الممتع في شرح المقنع في الفقه الحنبلي لابن المنجَّى ت 695هـ نُسخت سنة 908هـ.

 

 

 وللحنابلة أخبار أخرى في حائل، ما سبق هو مقدَّمُها .

 

والله أعلم

 

 

كتبه

حسان بن إبراهيم بن عبدالرحمن الرديعان

٢١ / ١٢ / ١٤٤١هـ