نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة بين الدعوى والحقيقة



نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة
بين الدعوى والحقيقة
5/16/ 1439هـ

الحمد لله وبعد :

نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة هكذا إجمالاً؛ يعني أن التفويض يكون واقعًا عند جُل إن لم يكن كل- الحنابلة في كل الصفات.
كما يعني ذلك أن هذه النسبة تعني أن الإثبات (إثبات معانٍ معلومة للصفات) أو تأويلها إلى معانٍ أخرى ليس منهجًا مُتَّبَعًا عند جُل أو كُل الحنابلة.
والتفويض في صفات الله تعالى؛ يكون حكمًا إجماليًا كما يكون حكمًا تفصيليًا على بعض الصفات دون بعض.

وليس القصد في مناقشة هذه النسبة لعقائد الحنابلة أن يكون الإثبات قولاً واحدًا عندهم، لأنَّه ( ما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف لكن نزاعهم في مسائل الدق؛ وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها ). نقض المنطق (المجموع 4/166)

ليس هذا هو القصد؛ وإنما القصد هو مقابلة هذا الحكم الإجمالي الذي تكرر على ألسنة بعض الفضلاء المعاصرين في السعودية والخليج وترديدهم: ( الحنابلة مفوضة  .. أنا حنبلي مفوض ) بما هو مدون عن الحنابلة ومحكي عنهم.

وإليك شيء من ذلك:

*
أولاً* :
المدوّن عن الإمام أحمد وتلامذته في عصره يزيد على المائتين وثلاثين مدونة حنبلية  [المدخل:1/134] لم يُنقل فيها شيء من التأويل أو التفويض أو الإشارة إلى ذلك، وهي مرحلة وإن كانت مرحلة تدوين ونقل للمذهب إلا أنها خارجة عن دعوى من نسب التفويض إلى  أئمة المذهب.

*
ثانيًا* :
لم يُنقل عن الحنابلة الذين جاءوا بعد تلاميذ الإمام القول بالتأويل أو التفويض، ولم يشتهر عنهم الخوض في علم الكلام والجدل، ومن أبرز رجال هذه المرحلة: الخلال (ت311 هـ) والآجري (ت360 هـ) ، وغلام الخلال (ت363 هـ) وابن بطة العكبري (ت387 هـ) ، وخاتمتهم الحسن بن حامد (ت403 هـ). فهل من ينسب التفويض في صفات الله إلى الحنابلة يستطيع أن ينسبها إلى الخلال أو الآجري أو ابن بطة الذين سلكوا مسلك أهل الحديث والأثر في الاتباع؟ أو ابن حامدٍ القويِّ في الإثبات الجادِّ فيه؟ [مجموع الفتاوى (6/53-54)]. فلو سلك ابن حامدٍ مسلك التفويض لما أثبت نزول الله تعالى بحركة وانتقال كما حكى ذلك تلميذه القاضي أبو يعلى [انظر المسائل العقدية من الروايتين والوجهين ص57]
ومفوضة زماننا اليوم ينأون أن يُثبتوا نزول الله تعالى كإثبات ابن حامد هذا، أو إثبات ابن بطة الذي أمسك عن إثبات الانتقال أو نفيه في صفة النزول. [مجموع الفتاوى (5/53402)]، وسيأتي الكلام على صفة الكلام.


*
ثالثًا* :
إذا نظرنا إلى الأحكام الإجمالية التي أصدرها الحنابلة في تقريرهم لصفات الله تعالى سنجد أنَّ طائفة كبيرة منهم قرَّرت أن لصفات الله تعالى معانٍ معلومة في اللغة خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بها.
ولا يعني أن من أطلق هذا الأصل وقرره أنه لا يخالفه في صفة أو صفتين أو في بعض الصفات. فهل إذا خالف في ذلك يكون تقريره الإجمالي منزوعًا منه مُبطَلاً؟ ونحكم عليه بأنه مفوض؟
ممّن قرَّر هذا التقرير في الصفات وقعّد هذه القاعدة من الحنابلة من بعد زمن تلاميذ الإمام-:
1-
أبو إسحاق بن شاقلاَّ  (369هـ) في طبقات الحنابلة (2/132(
2-
محمد بن إسحاق بن منده (ت395هـ) في التوحيد (3/7(
3-
أبو الفرج الشيرازي الحنبلي (ت486هـ) في التبصير في أصول الدين ص129.
4-
أبو الحسن ابن الزاغوني (ت527هـ) في الإيضاح 281و 284.
5-
الحافظ عبدالغني المقدسي (ت600هـ) في الاقتصاد ص100 و118.
6-
الموفق ابن قدامة المقدسي (620هـ) في ذم التأويل ص 45 والصراط المستقيم ص 44. وهو مبينٌ مفصلٌ لما أطلقه في لمعة الاعتقاد : (وجب إثباته لفظًا وترك التعرض لمعناه (
7-
محمد ابن عبد الهادي (ت744هـ) في الصارم المنكي ص 229
8-
الحافظ ابن رجب (ت795هـ) في الذيل (5/96 وما بعدها(
9-
عبد الباقي المواهبي (ت1071هـ) في العين والأثر ص111
10-
السفاريني (ت1188هـ) في لوامع الأنوار (1/116(

*
رابعًا* :
وهذا خاص في القاضي أبي يعلى (ت٤٥٨هج)  إمام المذهب في زمانه- لأنه المعتمد عند من أطلق دعوى التفويض ونسبها إلى الحنابلة:
القاضي أبو يعلى يَظهر لنا سلوكه مسلك التأويل الأشعري في كتابه المعتمد غالبًا، وأما إبطال التأويلات، والمسائل العقدية من الروايتين والوجهين ففيها من الإثبات ما لا يصحُّ أن يُستخرج منه مسلك التفويض جملة، وإن وقع في التفويض كما في الاستواء حين قال عن أثر أم سلمة ( فقد صرحتْ بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله على العلو والاستيلاء ) لكنه في موضع آخر من نفس الكتاب لا ينفي حمل الاستواء على العلو، مثل ما شبّه إثباته لصفة النزول بغير انتقال خلافًا لشيخه ابن حامد- بإثبات الإمام أحمد للنزول من غير أن يخلو من العرش. [إبطال التأويلات: ص 71، 261].

ولو لم يُثبت معانٍ لهذه الصفات لكان النزول عنده هو المجيء وهو الاستواء.
وكثيرًا ما يحكي تقي الدين ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى أقواله في الأول والآخر، وليس في آخر أقواله ما هو تفويض مطلقًا للمعاني،[انظر مثلاً مجموع الفتاوى 5/523]

*
خامسًا* :
القول في صفة الكلام عند من قال من الحنابلة كأبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم من الحنابلة بأنه: كلام قديم بحرف وصوت دون تعلقه بالمشيئة ..، هذا ليس فيه تفويض، بل هو تأويل كتأويل الأشاعرة له بالكلام النفسي، لأن إثبات الحرف والصوت إثبات مجمل للكلام وإن نفوا تعلقه بالمشيئة فهو جنس تأويل لا جنس تفويض، فمن أراد أن يستدل بصفة الكلام على تفويض الحنابلة فلينسبهم إلى التأويل في هذا وليس إلى التفويض، وإلا لكان الحرف والصوت عند هؤلاء هو النزول والمجيء والرضا والغضب بجامع جهالة المعاني فيها جميعا.

ثم إنَّ القاضي أبا يعلى نصَّ على صحة الرواية عن أحمد أنه قال: يتكلم إذا شاء، لكنه يتأولها فقال: ( لعل هذا القائل من أصحابنا يذهب إلى قول أحمد بن حنبل في رواية عبد الله : لم يزل متكلما إذا شاء . قال: والقائل بهذا قائل بحدوث القرآن وقد تأولنا كلام أحمد يتكلم إذا شاء في أول المسألة ولا يشبه هذا وصفه بالخلق والرزق  ..) [من إبطال التأويلات نقلاً عن مجموع الفتاوى 6/159]
ويُنتبه في قول الحنابلة في صفة الكلام إلى أن أبا العباس ابن تيميّة نقل عن ابن حامد أن قول أصحاب أحمد كقول أحمد فيها. [شرح الأصبهانية ص٢٣٢ و٣٩٣]

ومعوّل دعوى نسبة التفويض إلى الحنابة على صفة الكلام هو على ما أطلقه إمام أشعرية زمانه الفخر الرازي الشافعي (٦٠٦هج) بقالت الحنابلة وذكر قولهم في القرآن [انظر أصول الدين ص٦٣] وكذا الشهرستاني(ت٥٤٨هج) والنسفي(ت٥٠٨هج(  والإيجي(ت٧٥٦هج (

*
سادسًا* :
إذا كنَّا نجد التأويل والتفويض مسلكين متّبعين مقرَّرين عند الأشاعرة، فإنّنا لا نجد التفويض عند الحنابلة، وإنما هي أقوال عند متكلمة الحنابلة غير مطردة، فـ( الأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية - فيما يحتجون به من القياس العقلي - فرع عليهم ) [مجموع الفتاوى 6/54-55]
فهذا هو الأصل في الحنبلية.

*
سابعًا* :
صنّف ابن الجوزي (ت٥٩٧هج) كتابه " دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه " في الرد على الإثبات الذي يُقرره ابن حامد وأبو يعلى وابن الزاغوني حيث قال ابن الجوزي بعد ذكر أسماء الثلاثة: ( فصنفوا كتبًا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحِس ..) ص٩٧
*
فيامن تعتبر ابن حامد وأبا يعلى وابن الزاغوني من رموز الحنابلة المقررين للتفويض هذا هو ابن الجوزي -المقرر للتفويض عندك أيضًا- يعتبرهم شانوا المذهب بالإثبات الذي عنده هو التجسيم !!*

*
ثامنًا* :
التناقض بين الإثبات والنفي لا يُولّد منهجًا مطردًا. فلو كان المعوَّل على دعوى نسبة التفويض إلى الحنابلة على ابن عقيل وابن الجوزي فقط لما صحّ ذلك، حيث إن ابن عقيل وابن الجوزي متناقضون في الإثبات والنفي. وكم أثبت ابن الجوزي من الصفات الخبرية في صيد الخاطر وهو في نفس الكتاب قد شنّع فيه على ابن عبد البر إثباته للاستواء!
فكيف بعد هذا تكون نسبة التفويض إلى الحنابلة مطردة منتظمة وعند طائفة منهم من الاختلاف في المنهج كما عند ابن الجوزي !!

*
تاسعًا* :
إذا كان مسلك التفويض مسلكًا مرضيًا عند الأشاعرة؛ وهو قد قرره الجويني(ت٤٧٨هج) في العقيدة النظامية أنه منهج السلف فلماذا هذا التشنيع على الحنابلة في عقائدهم من قبل الأشاعرة ؟!
ألم يُشنّع أبو نصر ابن القشيري سنة ٤٦٨هج على الحنابلة ويصفهم بالمجسّمة ويحرض نظام الملك عليهم؟ حتى حُبس على إثرها أبو جعفر بن أبي موسى الشريف الهاشمي (ت٤٧٠هج(

ثم كانت بعدها بسنوات قليلة سنة ٤٧٥هج فتنة أبي القاسم البكري الذي حظي من نظام الملك بالتدريس في بغداد فأخذ يحط في خطبه ودروسه من قدر الحنابلة ويصفهم بالمجسّمة حتى قال مرة وهو يُبريء الإمام أحمد من منهج حنابلة زمانه فقال: (والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا ) واشتدت الفتنة !
وكذلك ما جرى لأبي إسماعيل الهروي الحنبلي الأثري من شكاية الأشاعرة (شافعية وأحناف)  -مع تقدير الجويني له- عند السلطان ألب أرسلان وما صنعوا له في المحراب؛ لِما يرمونه به من التجسيم الذي هو الإثبات وليس التفويض ! إذ لو كان تفويضًا لما كان هذا الامتحان له في زمن الجويني.

وكذلك ما جرى  للحافظ عبدالغني المقدسي (ت٦٠٠هج) من أشاعرة دمشق الشافعية تجاهه وتجاه أبناء نجم الدين الحنابلة ليوقعوا بينهم، فشكوهم إلى الوالي وكتبوا قائلين: ( هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة ، واعتقادهم يخالف اعتقادنا ..) حتى أخرجوه لبعلبك ثم لمصر !

لو كان حنابلة تلك الأزمان مفوضة بإطلاق لما حصلت لهم هذه المحن إلا أن يكون تفويض الحنابلة المنسوب لهم تفويضًا مرادفًا للإثبات !

*
عاشرًا* :
يُعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو أوفى من فصل الكلام في عقائد الحنابلة وما نُسب إلى أئمتهم من أقوال في الصفات ؛ فعليه المعول إذ اطلع على ما لم يطلع عليه من بعده من مخالفات الأصحاب ؛ ومع هذا يقول عن أتباع الإمام أحمد: ( فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته.
ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء ) [ بيان تلبيس الجهمية ٣/ ٥٤٩]

أخيرًا:
من خلال قراءة تاريخ الحنابلة العقدي والنظر في تقريراتهم ؛ لا يمكن لبصير أن ينسب التفويض في الصفات للحنابلة منهجًا عقديًا مطردًا، ففي هذا من التجنّي تمامًا كما يفعل بعض المنتسبين للسلف في الحكم بالتعطيل والتجهم لمن وقع في شيء من التأويل .

والله من وراء القصد وهو المستعان