سماسرة الاستعمار .. حُرقة الزيات بين ابن غبريط والصديقة الفرنسية

سماسرة الاستعمار

دار حوار بين الأديب المصري أحمد حسن الزيات وصديقته الفرنسية أثناء مشاهدتهما احتفالات العيد الوطني للفرنسيين في باريس حينما كان يدرس الحقوق فيها سنة 1925م حيث يقول:

 ( وكان معي صديقة فرنسية من طالبات الحقوق لها عقلٌ راجح ورأيٌ حر، فقلت لها وأنا أشير إلى يتامى العيد من ضحايا الاستعمار الفرنسي في أفريقيا وآسيا: أليس هؤلاء من أفراد الإنسان الذي أعلنت ثورتكم حقوقه؟ أليس لهم أوطانٌ تسعها الحرية؟ وإنسانية تشملها الأخوة، وحقوق تكفلها المساواة؟ فقالت الآنسة بلهجة الصريح وهيئة الجادّ: ومن الذي قال إن فرنسا تريد بالإنسان كل بني آدم؟! أيكون أخي هذا الحيوان الذي تشير إليه بلونه القاتم وفمه الغليظ وأنفه الأفطس؟! أم يكون مثلي هذا المخلوق الذي ينظر إليك بعقله البدائي وحسِّه البليد وجهله المطبق؟! إنَّ معنى ذلك لو صحّ ألا يكون لنا عبيدٌ في السنغال والكونغو، ولا أتباعٌ في الهند والصين.  لا يا صديقي .. إن الباريسيين الجياع الذين أشعلوا الثقاب الأول للثورة في حي القديس أنطوان لم يكونوا يفكرون في كل محروم ومظلوم .. ).


لم يكن هذا الموقف هو الموقف الذي صَدَم  الأديب المصري وهو في باريس، فهو يُبصر جيدًا الأحداث في ماضيها وحاضرها، وإنما كان الموقف الصادم والمؤلم والذي أثار الأديب الزيات هو ما حدث من الغد الذي هو آخر أيام الاحتفالات الوطنية في باريس، حيث افتتح سلطان المغرب يوسف بن الحسن في باريس جامع باريس ومعهده ومستشفاه في احتفال كبير شهده رئيس فرنسا، يقول الزيات :

 ( وكنتُ ممن شهد هذا الاحتفال، ورأى ما كان به من المَلَق، وسمع ما قيل فيه من الكذب، ولقيتُ بعده سي قدور ابن غبريط..، وكان المندوب الرسمي للسلطان والقيِّم الديني على الجامع، وجرى بيننا حديثٌ لا أزال أذكرُ من شجونه ما يشجي! قلتُ له وزميلتي تسمع: كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد؟ ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذلَّة؟! فلم يدعني الرجل أتمّ كلامي وإنما قاطعني محتدًّا بقوله: لا يا سيدي، ليس الفرنسيون بأكثر فرنسية منَّا، نحن نتمتّع في ظلال الجمهورية بالإخاء الصحيح والرخاء الشامل، وإنَّ الجنود الجزائريين في الجيش والشرطة والعمال المراكشيين والتونسيين في المصانع والمزارع يُعاملون بما يُعامل به الفرنسي القحّ، أدام الله نعمة فرنسا على شعوب العرب ونفع بعلومها وحضارتها أمم الإسلام ).

يقول الزيات: ( فوجمتُ أنا .. وابتسَمَتْ هي -أي صديقته الفرنسية- وأخذتُ أوازن في نفسي بين كلام الفرنسية الصريحة وكلام العربي الصَّميم، فأيقنتُ أن بلية العرب والإسلام هي سماسرة الاستعمار من أمثال هذا الإمام ...

 وقد مات ابن غبريط ولا أدري على أي رأيٍ لقيَ الله بعد ما رأى فواجع فرنسا في مراكش ومآسيها في تونس؟ والله يغفر الذنوب جميعًا .. ولكن ممالأة العدو في الوطن كبيرة لا يُكفِّر عنها إلا النار ... ).


  ما أشبه الليلة بالبارحة .. لكن لا يزال في أمتي الخير .. والخير مبدأه  يكون بالوعي بأمر الله الشرعي ثم بسننه الكونية ..

 والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

مقالة الزيات هي بعنوان : من ذكريات الصيف في باريس .. من كتاب ذكرى عهود .. أشلاء سيرة ذاتية ص185 وهي في ( وحي الرسالة 4/165-168)

 

حسان بن إبراهيم الرديعان

1/4/1442هـ