ارتشاف التجديد في مورد الهوى



ارتشاف التجديد في مورد الهوى
 3 شوال 1433هـ


الحمد لله وحده وبعد:

أعظم الفتنة إناطةُ فهم الوحي بالميل لفلان وفلان. وكونُهُ فتنة: هو أن يكون ذلك بغير قصد، وأمَّا إذا كان بقصدٍ فلا شك أنَّه الضلال الذي أهلك من قبلنا. وفي ذلك دعوة موسى: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا.
في بعض الأشخاص من التأثير ما يجعلُهُ مكتمل الحقيقة، فتُسلَبُ فهم الوحي بذلك. وما يحصل هذا إلا عند العجز عن التجرُّد وفقدِ آلة الفهم التي جعلها علماء الإسلام ميراثًا مهذَّبًا له أصول وفروع، يكفي مَن تمسّك بأصوله النجاة من مهالك هذه الموارد، وأمَّا إدراك الأصول مع الفروع فهي مرتبة عليا ليس الخطاب هنا موجهٌ لمن بلغها.
إنَّ فتنة العلم وبناء الأفكار على هذه الفتنة ليست حدثًا جديدًا على المسلمين، لكنها تأخذ أشكالاً جديدة حسب الزمان والمكان عبر تاريخ المسلمين. وكم صفى العلمُ القليل المأخوذ في حلق المساجد وشد الرحال لصاحبه عند المُحاجزة، في حين كدّرتِ الألقابُ والشهادات العليا على أصحابها العلمَ الكثير عند المُناجزة.
وفتنة العمل في الإسلام ليست بأقلَّ من ذلك؛ فهذا عروة بن أذينة من رؤوس الخوارج المتبوعين- الذي أؤتمن خادمُه على وصف عمله فقال: ما وضعت له طعامًا في نهار ولا فرشتُ له فراشًا في ليل قط. أي من كثرة صيامه وقيامه، هاهو قد شهد على عثمان بن عفان ثم على عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما بالكفر!!
ولمّا كان الهديُ النبوي والعهد الراشدي التربيةَ على صغار الأمور قبل كبارها، والالتفات للناس من أجل الناس؛ برزت في المجتمع أمور عظيمة لمَّا خلتْ من هذا الهدي: دفعَ المرءُ غيسانَ شبابه ورُبَّان فتوته لقضايا أصبحت هامشية، بل أشبه بالسراب، قادهُ إليها الافتتان بقول قائلٍ أو عمل عامل، وربما دفع دمعات والديه ثمنًا لذلك، بل ربما دفع أكثر من ذلك وهي حياته. وانشغل فئام لمَّا يميزوا المحكم من المتشابه بتنظير قضايا لو كانت في عهد عمر لجمع لها أهل بدر. وانحازت الأحكام للمجموعات والتصنيفات. وهكذا حتى غدا جسم المجتمع مريضًا بأدواء وأسقام.
ولمَّا تعلق بناء منهج الدعوة والتربية في الأشخاص والتصورات التي تدور على الذوات المجردة أصبحت المآلات كما نراها:
- افتقر التأصيل إلى التشبع من غنى مقاصد الشريعة في السياسة وحفظ الضروريات، فاستُورِدَ نصراني عربي ليعطينا دروسًا من منهلِه ومحتدِه في الحقوق وبناء المجتمع الحقوقي، ونالَ حظوةً أبانت العوز في الهويَّة والمقصد.
- خلت النفوس من الارتواء من معين الموازنة بين المصالح والمفاسد الذي فاض تراثنا من تقريره وتحريره (وهو أهم درسٍ لمعالجة المجتمع)، فآل ذلك إلى قياسات فاسدة طالت تطبيقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغلو والجفاء في حق الحاكم والمحكوم. فقادت الأهواء وسوء الترجيح إلى تعظيم ظلم الحاكم في مقابل الاستهانة بجناية العالِم، واختلاط حقوق الناس العامة والخاصة في أولوياتها والدفاع عنها، ودفع الظلم عن الأقلية بما يجرُّ المفسدة على الأكثرية.
- تصوُّرُ النجاح والتوفيق في عمل المحاضن التربوية بأنه الشهرة الواسعة والاحتفاء في كل محفل وجني الثمرة في كل حين والإشادة والثناء من كل أحد ، فآل فقدُ ذلك إلى اليأس والملل ثم التبديل والتغيير.
- فهمُ الثبات على المبادئ بأنه الشعور بالزهو في كل مرحلة والراحة المتنامية، فآل ذلك إلى الاصطدام بالعوائق والانزلاق في المضايق والافتتان عند الامتحان واهتزاز الثقة عند المماحكة.
- التعوّد على معالجة القضايا المنهجية بالطَّبع والجبلَّة، فآل ذلك إلى عدم القدرة على تمييز المنهج الرباني من المنهج البشري ومن هذا خرج التعصب والمكابرة و غير ذلك.
إنَّ ما يلوح في الأفق عند مقارنة اليوم بالأمس أنَّ هناك عدم استفادة وإرادة عدم الاستفادة- من مزالق الأمس. فلا زلنا متعلقين بالرموز والأشخاص حتى بعد أن بدلوا وتغيروا، وتبدلت الظروف وتغيرت.
لما جاءت مفاهيم المجتمع المدني والأنظمة الحقوقية وصارت ملأ السمع والبصر وتمكنت من حديث النُّخب والرموز، ظهر النقصُ الحاد في المخزون الشرعي لفظًا ومعنى عند من استشرفت نفسه التجديد في هذا المورد وارتشافه. وإنما قلتُ ارتشافًا لأنَّ من تليَّن كلامه وتواقيعه وشعاراته ب(الحرية) و(المساواة) و(الإنسان أولاً) هِيَ على لسانه كارتشاف الفم للعسَل ومنادمة المعشوق لمعشوقه. فأُخِذَ بذلك عن تمحيص هذه الألفاظ من دواخل الباطل، واستغنى بها عن حصانة ( العدل ) والقواعد الشرعية وما تحمله من قيود جامعة مانعة. وما النهايات المؤلمة كسيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، ومساواة كلمة الحق وكلمة الكفر في مفهوم حرية التعبير، واللوازم المترتبة على صوت الأكثرية، وعدم التفريق بين حال الاضطرار والاختيار وغير ذلك إلا سَوءة من سوءات التجديد المطلقة من فم الرموز، وعورة من عورات سالكيه في هذا المورد، كابَرَ فيها أكثرهم.
ما أقساهُ من منظر، وما أشنعه من شعور حينما ترى المتدثر بلباس الشريعة قادته المدنيَّة إلى وضع كفِّه بكفِّ حقوقيٍّ مسلوب الدين! أو مناهضٍ للطغيان رافضي المنشأ! أو ناشط اجتماعي شعوبي الفكر!  ليُقرِّرَ معهم ولو بالفعل دون القول- أنَّ (الفتنة) وَهْمٌ استغلَّه السياسي، وأنَّ مبدأ الحفاظ على الجماعة يورث الاستكانة والذل، وأنَّ الكفر الأكبر هو الظلم الواقع على الناس، وأنَّ الطاغوت هو الاستبداد السياسي إلى غير ذلك من الترّهات. قد أفصح هذا المتدثِّر وهو لا يشعر أنَّ موازينه هي سلامة العيش وانتظام الرزق وأن يقول من شاء ما شاء.
كلما كان بناء الشباب على النصوص الشرعية ومقاصدها والغوص في مضامينها كان التعلق بالرموز والافتتان بآرائهم أقلّ وأسلم، وكانوا أقدر على الثبات عند موارد الزلل.
إنِّي أعتقدُ جازمًا أنَّ على أهل العلم علماء وطلاب علم وحماة للدين- في هذه البلاد خاصة أن يدركوا حقيقة واقعة ليست لغيرهم- وهي أنَّ الله عزَّ وجل جعلهم الله حملةَ ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض النبي صلى الله عليه وسلم ومهد دعوته التي خرجت صافية إلى أرجاء المعمورة وأن أمامهم تحد للحفاظ على كيان هذه البلاد الموحّد بالخير والصفاء. وأنَّ هذا الصفاء موعود بالكدرة واللوث، وأشدُّ هذه الكدرة هي آراء الرجال في مقابلة الوحي، وأنَّ فئة ستظلُّ تحفظ هذا الصفو من التكدير إلى قيام الساعة بإذن الله. والله أعلم ..