قواعد منهجية في الدفاع عن الصحابة


بسم الله الرحمن الرحيم

قواعد منهجية في الدفاع عن الصحابة
محاضرة أُلقيَتْ في جامع المحيسني بحائل مغرب الخميس 29/5/ 1439هـ
د.حسان بن إبراهيم الرديعان

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، واستنَّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا.

أيها الإخوة الكرام، موضوع محاضرتنا هو الدفاع عن الصحابة، وهذا الموضوع هو جزء من كل، وفرع من أصل؛ لأن الإيمان بالصحابة يتضمن التعريف بفضلهم ومكانتهم وحقوقهم، وما يتبع ذلك من مسائل، وهي قاعدة كلية، وباب من أبواب العقيدة.
 وإنَّ الدفاع عن الصحابة هو جزء من هذا الاعتقاد، أما أنه عقيدة؛ فلأن الله تعالى دافع عنهم في كتابه، ودافع عنهم النبي – صلى الله عليه وسلم – ودافع الصحابة أنفسهم بعضهم عن بعض، وكذلك سلف الأمة وهداة هذه الأمة من التابعين وأتباع التابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يومنا هذا، ولذلك كان الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم – هو عقيدة ومنهج.
وإعلان الاعتقاد في الصحابة في هذا الزمن هو كإعلان إثبات الصفات لله – عز وجل – أمام الجهمية في القرن الثاني أو الثالث، وكذلك هو كإعلان أن العمل من الإيمان أمام المرجئة؛ لأننا في زمن أصبح الطعن في الصحابة من أشد مسائل الانحراف بعد مسألة توحيد العبادة ومسائلِها التي شذ بها أقوام من الناس اليوم في صرف العبادة لغير الله – عز وجل.
 لهذا تأتي مسألة الدفاع عن الصحابة بعد هذه المسألة من أهم المسائل التي ينبغي طرحها وتناولها بعدة أمور، منها:
-       بيان الدفاع عن الصحابة: وذلك بذكر القواعد العامة في الدفاع عن الصحابة، وهذا موضوع محاضرتنا اليوم.
لكن الموضوع أكبر من ذلك، فالدفاع أيضا يشمل الجواب عن الشبه التفصيلية، الشبه التفصيلية في حق الصحابة – رضوان الله عليهم -، فالشبه التفصيلية والجواب عليها – مثلا – في حق معاوية – رضي الله عنه – يحتاج إلى محاضرة مستقلة، وكذلك الشبه الإجمالية التي يثيرها المخالفون في الشيخين قبل ذلك، وفي عثمان – رضي الله عنه –، ويوم الدار، وفي معركة الجمل وصفين، ونحوها من هذه المسائل.
فلهذا، أكثر ما نحتاج إليه اليوم بعد مسألة توحيد العبادة وبيان أنواعها وبيان نواقضها، هي مسألة الدفاع عن الصحابة؛ لأننا في زمن كزمن الإمام أحمد أمام الجهمية، وزمن – أيضا – السلف الصالح أمام المرجئة.
أيها الإخوة، الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم – هو منهج قرآني، فالله – سبحانه وتعالى – دافع عنهم، كما قال سبحانه وتعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه...}، وقال سبحانه {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثل في الإنجيل...}، وهناك آيات كثيرة دافع الله – سبحانه وتعالى –وبين مكانة الصحابة – رضوان الله عليهم – في كتابه، مثل قوله سبحانه {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة...}. يقول ابن حزم – رحمه الله – في هذه الآية: فمن أخبرنا الله – عز وجل – أنه علم ما في قلوبهم، وهو في قوله {... فعلم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم فأثابهم فتحا قريبا}، قال: وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة.
وهناك آيات كثيرة دلت بمدلولها الصريح وبمدلولها الضمني، كقول الله – سبحانه وتعالى – {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون}، يقول ابن عباس – رضي الله عنهما -: الذين اصطفى هم الصحابة.
ولكن لدينا آية من أهم الآيات التي دلت على هذا المبدأ وهو الدفاع عن الصحابة، وهو قول الحق – سبحانه وتعالى – {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبهم غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} سورة الحشر. هذه الآية من أعظم الآيات التي دَافَعَتْ عن الصحابة، وذلك أن هذه الآية سبقتها آيتان تتحدثان عن صنفين من الصحابة، فقوله سبحانه {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم...}، هذه الآية هي في المهاجرين، ثم الآية التي بعدها {والذين تبوأوا الدار والإيمان...}، وهي في الأنصار، ثم بعدها هذه الآية {والذين جاؤوا من بعدهم...}، وهي شاملة لمن جاء بعد الصحابة إلى يومنا هذا. يقول ابن عباس – رضي الله عنهما – في هذه الآية لما فسر هذه الآية، قال: ( لا تسبوا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم ) في هذه الآية. قال: ( أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون )، بمعنى أنه سبحانه يعلم أن الداعي للنيل منهم سيحصل وهو الاقتتال، ومع هذا أمرنا الله – سبحانه وتعالى – في هذه الآية ألا ننال من الصحابة. تقول عائشة – رضي الله عنها – أيضا في هذه الآية، قالت لعروة بن الزبير: يابن أختي أُمِرَ المؤمنون أن يستغفروا لأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومع هذا سبوهم – أو قالت: فسبوهم. وقالت هذا في الذين نالوا من عثمان، تقصد أهل مصر الذين نالوا من عثمان، وتقصد أهل الشام الذين نالوا من علي رضوان الله عليهم أجمعين.
 وهذه الآية أيضا يتشبث بها كثير من الأئمة في الاستدلال والدفاع عن الصحابة، ذلك أن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين – رضي الله عنه – وهو ليس من الصحابة، نال بعض من كان معه من أبي بكر وعمر عنده، فلما انتهوا من النيل منهما التفت إليهم، فقال: أأنتم (المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) في الآية الأولى؟! قالو: لا، قال: أأنتم (الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)؟! قالوا: لا، قال: إذن، والله لستم الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وهذا من فطنته – رحمه الله.
ومن الآيات – أيضا – التي يستدل بها من تكلم في الدفاع عن الصحابة قول الحق – سبحانه وتعالى – {لقد تاب الله عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في الساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم...}. يقول الجصاص: "هنا فيه مدح لأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار، وأخبر بصحة براءة ضمائرهم وطهارتها؛ لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي عن أفعالهم. وفي هذا – أي في هذه الآية – رد على الطاعنين بهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله – سبحانه وتعالى – إليه من الطهارة، وما وصفهم به من صحة ضمائرهم وصلاح السرائر– عليهم رضوان الله تعالى.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – كما لا يخفى عليكم دافع عن الصحابة. فإذا كان مقام الصحابة شريف رفيع، لماذا يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – :"لا تسبوا أصحابي.."؟!. وذلك أنه لما بدر ما بدر من أحد الصحابة وصاحبه، أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذه القاعدة، فقال: "لا تسبوا أصحابي.." أي: وإن بَدَرَ لكم ما يُوجب أو يوقع في قلوبكم سبب النيل من الصحابة، فينبغي عليكم ألا تسبوهم. هذا هو المفهوم من قوله: "لا تسبوا أصحابي.." بعد أن ظهر ما ظهر بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، قال: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
وهذا الحديث – أيضا – يعضده أحاديث أخرى، كقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني – أو قال: خير أمتي قرني – ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وكذلك قوله – عليه الصلاة والسلام: "النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابيأتى أمتي ما توعد". والأحاديث الدالة على فضل الصحابة والدفاع عنهم أوصلها بعضهم إلى أكثر من خمسة عشر حديثا، منها الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية من كلام النبي – عليه الصلاة والسلام.
ومما يتناول في هذا الموضوع – أيها الإخوة – أن الصحابة – رضوان الله عليهم – دافع بعضهم عن بعض، مما يدل على أن الدفاع عن الصحابة كمبدأ يبتدئ به الإنسان، هو منهج نبوي أيضا سلفي. فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سمع أعرابيا – وهو قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم – يتكلم في الأنصار، فجاء به إلى النبي – عليه الصلاة والسلام – وقال: ما منعني من النيل منه إلا أنه صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – أي: النيل من هذا الرجل الذي نال من الأنصار. كما ثبت عن عمر – رضي الله عنه – أنه ضرب من فضَّلَهُ على أبي بكر، هذا دفاع عن فضل ومكانة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – مع العلم أن من قدَّم عمرَ على أبي بكر – وهذا لم يقله أحدٌ ظاهر من الصحابة في ذلك الزمن – إلا أنه لا يدل على استنقاص أبي بكر – رضي الله عنه – مع هذا ضرب عمر بالدرة من فضَّله على أبي بكر. وكذلك قول علي– رضي الله عنه – قال: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته جلد المفتري، بمعنى أنه افترى في تقديمه هو على أبي بكر وعمر، وهذا من دفاع علي – رضي الله عنه – عن أبي بكر وعمر.
وأيضا مما ورد من دفاع بعض الصحابة لبعض، أن عائشة – رضي الله عنها – بلغ عليًّا قولَها أنها لعنت الذين قتلوا عثمان في المربد، فرفع يديه عليٌّ فقال: اللهم العنهم في السهل والجبل. لعنهم مرتين أو ثلاثا.
أيضا – أيها الإخوة – الدفاع عن الصحابة هو منهج سلف هذه الأمة الذين دافعوا عن الصحابة عند ذكر من تنقصهم أو نال منهم وابتداء. فهذا مالك – رحمه الله – لما جاء ذكر الرافضة عنده قال: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل، فقيل له: لم؟ قال: لأنَّ من رماها فقد خالف القرآن". ولما سئل – أيضا – علي بن الحسين زين العابدين – وكان في المسجد النبوي – سئل عن مكانة أبي بكر وعمر وعلي أو مقام علي من النبي – عليه الصلاة والسلام – فأشار – رحمه الله ورضي عنه – بيده إلى قبر النبي – عليه الصلاة والسلام – وقال: منزلتهما هي بمنزلتهما الساعة – أي: الآن – لأنهما جوار النبي – صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا شك أنه مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يومنا هذا. وسيأتي الكلام على من قال أو من خالف من أهل السنة في الدفاع عن الصحابة أو في هذا المنهج. لكن، في معرض الحديث عن الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم – ينبغي أن نستوعب أن الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم – هو عقيدة ينبغي أن يستحضرها الإنسان في كل حين. وهذا الأمر أمر واسع؛ لأن الدفاع يكون عن أصول ويكون عن مسائل فرعية، كما أن الدفاع يكون عن الصحابة فيما لم يجعل الشريعة لهم فيه سعة، كما سيأتي الأمثلة عليه.
لهذا وضع أهل السنة في كلامهم ومنثور كتبهم من القواعد ما ينبغي أن يستحضرها الإنسان في الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم -. وأقول باختصار أنني جمعت من القواعد ما يصل إلى عشر قواعد من القواعد التي ذكرها أهل العلم في معرض حديثهم عن الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم.

القاعدة الأولى: أن الصحابة – رضوان الله عليهم – لهم من المكانة ما ليس لغيرهم من المسلمين. لهذا حكى بعض أهل العلم الإجماع على أن جميع الصحابة في الجنة، فقد حكى هذا محمد بن كعب القرضي وهو معدود في طبقة التابعين، وحكى هذا ابن حزم في قوله عند قول الحق سبحانه: {ليستوي من أنفق منكم من قبل الفتح وقاتل أولئك الذين أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا كلا وعد الله الحسنى..}، قال: قوله {وكلا وعد الله الحسنى} تدل على أن جميع الصحابة في الجنة. وعلى هذه القاعدة فيكون الدفاع عن الصحابة هو الدفاع عن مكانة ليست لأحد من المسلمين، لا لإمام من الأئمة ولا لفقيه من الفقهاء. فالدفاع عنهم أو الدفاع عن بعضهم أو عن أحد منهم ليس كالدفاع عن أبي بكر أو عمر أو أحد من الصحابة حتى وإن نزلت مرتبته كمن جاء بعد الخلفاء الراشدين أو بعد أهل بدر أو بعد العشرة المبشرين بالجنة.

القاعدة الثانية:أن الصحابة – رضوان الله عليهم – متفاوتون في الفضل، فإذا تفاوتوا في الفضل والمكانة، تفاوتوا أيضا في الدفاع. فالدفاع عن الشبهة التي ترد على أبي بكر وعمر ليست كالدفاع عن الشبهة التي ترد على أبي هريرة ومعاوية ونحوهما إلا أن الدفاع في حق الجميع واجب، سواء على وجه الإجمال أو على وجه التفصيل، وهكذا ممن كان له فضل من الصحابة. ولكن قد يراد النيل من صحابي واحد يراد به النيل من مجموعة من الصحابة كما هو في معاوية – رضي الله عنه -، ولذلك يقول وكيع بن الجراح: معاوية هو حلقة الباب فمن أخذ بها اتهمناه على من فوقه، ومن نال من معاوية نال ممن فوق معاوية – رضوان الله عليهم أجمعين.

القاعدة الثالثة: أن الأدلة دلت على أن الصحابة ليسوا معصومين من الخطإ والزلة، لكن الخطأ منهم ليس كالخطإ من غيرهم، والكبيرة منهم ليس كالكبيرة من غيرهم، وفي هذا صيانة لوحي الله – عز وجل – لأن الله أعطاهم من المكانة ما لم يعط غيرهم في صوابهم وفي خطئهم؛ ولهذا أُمِرنا بالاستغفار لهم بنص كتاب الله – عز وجل. وكذلك المكانة التي أعطاهم إياها النبي – صلى الله عليه وسلم- ولمّا بَدَر ما بدَر بين الصحابيين أُمرنا أمرًا جميعا أمرًا عاما لجميع المسلمين قال: "لا تسبوا أصحابي..."، فما صح من أخطاء الصحابة – رضوان الله عليهم – لا ينقض هذا الأصل العظيم الذي أعطاهم الله – سبحانه وتعالى – وأعطاهم النبي – صلى الله عليه وسلم.

القاعدة الرابعة: أننا مأمورون بالدفاع عن الصحابة في حال تيقن خطئهم، وكيف إذا لم يتيقن خطأهم أو كان في الحديث عن خطئهم اتهام وتحريف وزور. وهذا من الواجب الذي ينبغي أن يستحضره المسلم في هذا الزمان.

القاعدة الخامسة: أن قراءة تاريخ وسير الصحابة – رضوان الله عليهم – ليست كقراءة تاريخ وسير غيرهم من الأئمة الأربعة وأتباعهم وفضلاء الإسلام إلى يومنا هذا، والسبب هو المكانة التي أعطاهم الله – عز وجل – إياها. فقراءة تاريخ الصحابة بشكل عام لها ضوابط ولها قواعد، ولعلي أختصر الكلام في خمسة ضوابط وهي:
-       أن تاريخ الصحابة وسيرهم قد دخله شيء من التحريف والتزوير، وهذا بتتبع الأحداث، ولو تتبعنا ما دخل حادثة السقيفة، ومبايعة أبي بكر، وكذلك ما دخل في قتال أبي بكر للمرتدين، وكذلك في عَهْدِ أبي بكر لعمر بالخلافة، وفيما فعل عمر من فتوحات وغيرها رضي الله عنه، وكذلك في عَهْدِهِ للستة بالخلافة، وفي تولية عثمان للولاة الذين ولاَّهم على الأمصار في خلافته، وكذلك في حق علي و حق معاوية، لوجدنا فيها من التحريف والتزوير ما ينبغي على الإنسان أن يتأنى به ويحذر في قراءته وفي تمحيصه.
-       أيضا تاريخ الصحابة تناوله أناس متهمون في عقائدهم، فالمسعودي مثلا في كتابه مروج الذهب، والمسعودي أصل معتقده هو شيعي، فلا يؤخذ قوله في الصحابة في هذا الكتاب وفي غيره من كتبه، وكذلك ابن أبي الحديد المعتزلي الرافضي– وهو معتزلي رافضي – في كتابه المشهور عند الشيعة وغيرهم كتاب شرح نهج البلاغة، هذا لا يؤخذ قوله مطلقا في الصحابة؛ لأنه تكلم عليهم مُنطلِقًا من اعتقاده. وكذلك محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام، هؤلاء كلهم متهمون في عقائدهم فهم متهمون بأنهم ما بين غالين في التشيع وما بين فيهم شيء من التشيع، وكذلك ما قاله ابن خلدون في روايات الواقدي، قال: وفيها من المطعن والمغمز ما يتقنه ويعرفه الحفظة والثقات. والواقدي إن لم يتهم في عقيدته فإنه متهم في حفظه وروايته.
-       أيضا هناك كتب تناولت سير الصحابة وتاريخهم ليست هي أصل من أصول الرواية في هذا الباب، كما أن هذه الرواية ليس لها زمام ولا خطام. وذلك مثل ما ذكره الأصفهاني في كتابه الأغاني، فقد ذكر من الروايات التي فيها مطعن بالصحابة الشيء الكثير، وكذلك العقد الفريد لابن عبد ربه، وغيرها من الكتب.
-       أيضا من القواعد والضوابط في تاريخ وقراءة تاريخ الصحابة وسيرهم أن الكتب الصحيحة والتي شهد لها أهل العلم بأنها مرجع لأهل السنة لا تخلو من روايات باطلة أو روايات مكذوبة عن الصحابة – رضوان الله عليهم – فمثلا تاريخ الطبري، وهو الإمام الجليل ابن جرير الطبري في هذا روى لأحد الرواة المتهمين في عقيدتهم وفي روايتهم وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، هذا روى له أكثر من خمسمائة وثمانين رواية، هذه فيها من التحريف وفيها من النقص وفيها من المبالغة في حق الصحابة ما ينبغي تحريفه، وقد جُمعت في حق معاوية وفي حق علي في رسائل مفردة وهي مطبوعة وموجودة، كذلك في تاريخ ابن كثير البداية والنهاية، وكذلك سائر كتب ابن كثير وقعت بعض الهنات في الرواية، فينبغي أن يتحرى القارئ في هذه الكتب. نحن نتحدث الآن عن القارئ لسير الصحابة في أمهات الكتب، ينبغي أن يحذر مثل هذه الروايات، وابن جرير الطبري ذكر في مقدمة كتابه أنه قال: تركت القارئ - أو قال نحو من هذا – والرواية – يعني تركت الأمر بينهم – فلا أحكم أنا بصحة ما نقلت – كما قال – ولا أضعفه. فتَرَكَ القارئ يحكم، وهذا لا يكون إلا لمن ميز الرواة الذين في معتقدهم شيء والرواة الذين يروون كل شيء، لهذا، التعامل مع هذه الكتب – أيها الإخوة – يحتاج إلى محقق ومدقق ومميز لهذه الرواية كما أن عندنا أصولا ثابتة في حق الصحابة – رضوان الله عليهم.

القاعدة السادسة: أن الطعن في الصحابة – وهذا ما ينبغي أن يستحضره الإنسان – هو أصل من أصول الفرق المخالفة أو بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام كالشيعة والخوارج. والشيعة باختلاف طوائفهم، والخوارج نستطيع أن نقول فيما مضى من أمرهم، لأن خوارج العصر اليوم لن تجد عندهم الطعن في الصحابة ولن تجد عندهم – أيضا – القول بتكفير مرتكب الكبيرة، هذه هي المقالات التي اندثرت عند خوارج الأصل، ربما عند الإباضية اليوم، والإباضية – أنتم تعلمون – أنهم في عهدهم القديم كانوا خوارج خلّص، واليوم ليسوا كذلك؛ لأنهم منذ القرن الخامس دخلهم الاعتناء بعلم الكلام، فدخلهم شيء من الاعتزال، فهم اليوم مزيج من الوعيدية الخوارج، ومزيج من الوعيدية المعتزلة. والشاهد أن الطعن في الصحابة أصل عند هذه الفرق، ولا ينبغي لمسلم أنه إذا سمع أحد المنتسبين إلى هذه الطوائف يطعن في الصحابة أن يتعامل معها بمفرده، بل يُرجع هذا القول وهذا الرجل أو القائل إلى أصله، فإن إرجاع أصحاب المقالات والأقوال إلى أصولهم الاعتقادية كفيل بردِّ شبههم إن كانت هناك شبه. ولا شك أن الشيعة هم أكثر الطوائف نيلا من الصحابة، وعلى اختلاف درجاتهم، فمثلا عندما يأتي شيعي يتكلم في أن أبا بكر وعمر – رضوان الله عليهم – اغتصبوا – مثلا – أو أخذوا حق فاطمة من الميراث، هذا لا يُجدي الحديث معهم وهم يطعنون في خلافة أبي بكر وعمر، فإذا طعنوا في الخلافة، فمن باب أولى أن يطعنوا في الميراث وفي غيرها من القصص وغيرها مما يكذبون عليهما كحادثة رزية الخميس التي يفترون بها على عمر – رضي الله عنه – وفي أنه ضرب فاطمة وكسر أضلاعها، يعني في القصة التي يفترونها على عمر. فما الثمرة التي نستفيد منها أو أستفيد منها أنا المجادل لإثبات عدم صحة أخذ أبي بكر وعمر لميراث فاطمة، -وهي ليس لها ميراث لقول النبي – عليه الصلاة والسلام -: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"- وهم لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر ويرون أنهم اغتصبوا الخلافة والإمامة من علي. فمثل هذه القاعدة توضح المنهج في الدفاع عن الصحابة – رضوان الله عليهم.

القاعدة السابعة:أن الطعن في بعض الصحابة قد تلوثت به عقول بعض أهل السنة، والأمر ليس فقط يعني هم من خارج السنة، حتى من بعض أهل السنة وذلك في قديم الزمان وحديثه ، وسواء كان هذا العداء نصبا لعلي بن أبي طالب أو لابنه الحسين – رضوان الله عليهم أجمعين – كما كان في زمن بني أمية أو النيل من سائر الصحابة وخصوصا في حق معاوية ومن كان مع معاوية في زمننا هذا. لهذا الطعن في الصحابة ممن ينتسب إلى أهل السنة لا ينتسب إليهم بحال، وأما الذي يسير على أصول أهل السنة والجماعة فلا شك أنه شاذ عنهم في هذا، إمّا أنه يدفعه هوى سياسي في هذا، أو ميل لأغراض دنيوية، ولا يمكن أن يكون لاعتقادٍ في ذلك.
وأما الفِرق التي سارت على منهج أهل السنة والجماعة في باب الصحابة، لكنها انحرفت في أبواب أخرى، نجد منها من خلال تتبع تاريخها دفاعًا عن الصحابة بشكل كبير جدا، فالأشاعرة والماتريدية وطوائف أهل الكلام دافعوا عن الصحابة دفاعا ربما لم يدافع عنهم بعض المعاصرين المنتسبين إلى أهل السنة، وذلك لأنه ساروا في هذا الباب على وفق القواعد النصية، وهي عندهم من باب السمعيات، فلما لم يُدخلوا العقل فيها، عَظُمَ أمر الصحابة عندهم، فدافعوا عن معاوية ودافعوا عمن كان مع معاوية، وكذلك دافعوا عن عثمان – رضي الله عنه – فيما شنَّع عليه المخالفون في زمنه. لهذا نجد أن أبا الحسن الأشعري و(تلميذ تلميذه) الباقلاني – وهو من فضلاء وكبار أئمة الأشاعرة – دافع عن الصحابة في كتبه، وكذلك ابن فورك والجويني، بل إن المتأخرين منهم ألفوا كتبا في هذا الباب، من ضمنهم ابن الحجر الهيتمي وليس العسقلاني، وابن حجر الهيتمي هذا من أشد الأشاعرة المتكلمين والخائضين في مسائل الكلام، إلا أنه ألف كتابا بعنوان تطهير الجنان واللسان في ثالب معاوية بن أبي سفيان، وبين فيه فضل معاوية ومكانته، وأن قتاله لعلي لم يكن قتالا للعداء بينهم في أمر في دينه أو نحو ذلك، ولم يُلحقه فسقا أو نحوه، وإن قرر في ذلك تفضيل علي لقول النبي – عليه الصلاة والسلام: "تقتل عمار الفئة الباغية". الشاهد أن الأشاعرة والماتريدية حتى الماتريدية كأبي المعين النسفي ومن جاء بعدهم كلهم دافعوا عن الصحابة في كتبهم وتراثهم.
وهنا ينبغي أن نثير سؤالا: إذا كان الصوفية اليوم يرون أن من ينازعهم ويبين لهم الخلاف في مسائل العبادة وعدم جواز صرف العبادة عند المشاهد والقبور وتبيين أنواع الشرك، أن هؤلاء هم العقبة أمام معتقدهم، ومعتقد الصوفية هو يدور على الولاية، كما أن معتقد الشيعة يدور على الإمامة، معتقد الصوفية يدور على الولاية، وهم يجعلون الصحابة من أولى الأولياء بعد الأنبياء، فمن ينازعهم في أصل عقائد الصوفية هم الشيعة وليس أهل السنة ممن سار على منهج السلف. وبهذا، إذا كان الذين يسيرون على مدرسة المتصوفة وهم في الاعتقاد أشاعرة وماتريدية لا يدافعون عن مقام أبي بكر وعمر، وهم يسمعون جهارا نهارا الطعن في أبي بكر وعمر في الصحف والقنوات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فاعلموا أنهم لم يعظموا حق الولاية الذي يسيرون عليه حق التعظيم. فأبوبكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة أعظم ممن جاء بعدهم من الأولياء والصالحين، وهذا مما يثار على المدرسة الصوفية اليوم وتمالئهم مع الشيعة، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم.

القاعدة الثامنة: أن الشبهات التي يثيرها المخالفون والطاعنون، منها شبهات كلية، ومنها شبهات فردية. والشبهات الكلية – مثلا – كتعريف الصحابة، كمسألة الإمامة والخلافة ونحوها، هذه المسائل الكلية يطعنون بها في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وأيضا يطعنون في شبهة تعريف الصحابة عندما يُدخلون الخلل في تعريف الصحابة، فهم يشككون في سائر الصحابة. وهنالك شبهات تكون حصرية في حق – مثلا – صحابي واحد أو مجموعة من الصحابة اتصفوا بصفة معينة ككثرة الرواة، مثل أبي هريرة وابن عمر وأنس وأبي سعيد الخدري، فالطعن في روايتهم هو الطعن في سنة النبي – عليه الصلاة والسلام -، كما أن هناك الطعن – أيضا – في مسائل تفصيلية، فالطعن – مثلا – فيما جرى بين علي ومعاوية يكون مقام الرد عليه ليس كالمقام في الرد على الشبهات الكلية.

القاعدة التاسعة قبل الأخيرة: هي أن توضيح العلاقة بين أهل البيت – الصحابة من أهل البيت – وبين سائر الصحابة من غير أهل البيت، من أعظم الأوجه التي تبين فضل الصحابة وتدافع عنهم، وتهدم –أيضا – أصول المخالفين لنا في باب الصحابة. فعندما تبين لعامة الشيعة – مثلا – أن عليا – رضي الله عنه – لما طعن عمر، وقبل أن يقبض عمر، دخل عليه يبكي، فقال: " والله ما أتمنى – أو لا أتمنى – أن ألقى الله بعمل أحد مثل عملك، وذلك أني كثيرا ما سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: دخلت أنا وأبوبكر وعمر، وخرجت أنا وأبوبكر وعمر، وذهبت أنا وأبوبكر وعمر، وإني لأرى أن الله جاعلك مع صاحبيك". فمثل هذه الحادثة هي في نهاية زمن عهد عمر، فإن كان ينقم منه على شيء علي– رضي الله عنه – في حق عمر، فسيفرح بموت عمر، ولكنه بكى وقال هذا الكلام الذي هي شهادة وتزكية في حق عمر. كذلك – قبل ذلك – تزويج علي– رضي الله عنه – بنته أم كلثوم لعمر – رضي الله عنه – وهذه من الأحداث المؤلمة بالنسبة للشعية، وكذلك – أيضا – ما حصل بين الصحابة من المصاهرات، وقبل ذلك مصاهرة النبي – عليه الصلاة والسلام -، تزويج النبي – عليه الصلاة والسلام – أو تزوج النبي – عليه الصلاة والسلام – من عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وكذلك زواج الحسن بن علي من حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وغيرها من المصاهرات التي حدثت بين أهل البيت وسائر الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين. وكذلك العبارات التي دارت بينهم، والأفعال التي دارت بينهم مما تدل على الأخوة، هذه من أعظم الأصول التي يدافع بها عن الصحابة، وأيضا من الأمور التي تهدم أصول المخالفين لنا في باب الصحابة.

القاعدة العاشرة والأخيرة: أن الأصل الذي يسير عليه المسلم في الأحداث التي جرت بين الصحابة، وهو الإمساك عما شجر بينهم، وسلوك الحيطة والحذر في القراءة والحديث عما دار بينهم، فإذا كان هذا حق في الناس في المسلمين عامة، فهو في حق أفضل الناس بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – أولى وأحرى.
 أسأل الله – عز وجل – أن يعلمنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الكلام حجة لنا لا حجة علينا، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لسلوك هدي نبيه – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام وأهل بيته الطيبين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة بين الدعوى والحقيقة



نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة
بين الدعوى والحقيقة
5/16/ 1439هـ

الحمد لله وبعد :

نسبة التفويض إلى عقائد الحنابلة هكذا إجمالاً؛ يعني أن التفويض يكون واقعًا عند جُل إن لم يكن كل- الحنابلة في كل الصفات.
كما يعني ذلك أن هذه النسبة تعني أن الإثبات (إثبات معانٍ معلومة للصفات) أو تأويلها إلى معانٍ أخرى ليس منهجًا مُتَّبَعًا عند جُل أو كُل الحنابلة.
والتفويض في صفات الله تعالى؛ يكون حكمًا إجماليًا كما يكون حكمًا تفصيليًا على بعض الصفات دون بعض.

وليس القصد في مناقشة هذه النسبة لعقائد الحنابلة أن يكون الإثبات قولاً واحدًا عندهم، لأنَّه ( ما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف لكن نزاعهم في مسائل الدق؛ وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها ). نقض المنطق (المجموع 4/166)

ليس هذا هو القصد؛ وإنما القصد هو مقابلة هذا الحكم الإجمالي الذي تكرر على ألسنة بعض الفضلاء المعاصرين في السعودية والخليج وترديدهم: ( الحنابلة مفوضة  .. أنا حنبلي مفوض ) بما هو مدون عن الحنابلة ومحكي عنهم.

وإليك شيء من ذلك:

*
أولاً* :
المدوّن عن الإمام أحمد وتلامذته في عصره يزيد على المائتين وثلاثين مدونة حنبلية  [المدخل:1/134] لم يُنقل فيها شيء من التأويل أو التفويض أو الإشارة إلى ذلك، وهي مرحلة وإن كانت مرحلة تدوين ونقل للمذهب إلا أنها خارجة عن دعوى من نسب التفويض إلى  أئمة المذهب.

*
ثانيًا* :
لم يُنقل عن الحنابلة الذين جاءوا بعد تلاميذ الإمام القول بالتأويل أو التفويض، ولم يشتهر عنهم الخوض في علم الكلام والجدل، ومن أبرز رجال هذه المرحلة: الخلال (ت311 هـ) والآجري (ت360 هـ) ، وغلام الخلال (ت363 هـ) وابن بطة العكبري (ت387 هـ) ، وخاتمتهم الحسن بن حامد (ت403 هـ). فهل من ينسب التفويض في صفات الله إلى الحنابلة يستطيع أن ينسبها إلى الخلال أو الآجري أو ابن بطة الذين سلكوا مسلك أهل الحديث والأثر في الاتباع؟ أو ابن حامدٍ القويِّ في الإثبات الجادِّ فيه؟ [مجموع الفتاوى (6/53-54)]. فلو سلك ابن حامدٍ مسلك التفويض لما أثبت نزول الله تعالى بحركة وانتقال كما حكى ذلك تلميذه القاضي أبو يعلى [انظر المسائل العقدية من الروايتين والوجهين ص57]
ومفوضة زماننا اليوم ينأون أن يُثبتوا نزول الله تعالى كإثبات ابن حامد هذا، أو إثبات ابن بطة الذي أمسك عن إثبات الانتقال أو نفيه في صفة النزول. [مجموع الفتاوى (5/53402)]، وسيأتي الكلام على صفة الكلام.


*
ثالثًا* :
إذا نظرنا إلى الأحكام الإجمالية التي أصدرها الحنابلة في تقريرهم لصفات الله تعالى سنجد أنَّ طائفة كبيرة منهم قرَّرت أن لصفات الله تعالى معانٍ معلومة في اللغة خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بها.
ولا يعني أن من أطلق هذا الأصل وقرره أنه لا يخالفه في صفة أو صفتين أو في بعض الصفات. فهل إذا خالف في ذلك يكون تقريره الإجمالي منزوعًا منه مُبطَلاً؟ ونحكم عليه بأنه مفوض؟
ممّن قرَّر هذا التقرير في الصفات وقعّد هذه القاعدة من الحنابلة من بعد زمن تلاميذ الإمام-:
1-
أبو إسحاق بن شاقلاَّ  (369هـ) في طبقات الحنابلة (2/132(
2-
محمد بن إسحاق بن منده (ت395هـ) في التوحيد (3/7(
3-
أبو الفرج الشيرازي الحنبلي (ت486هـ) في التبصير في أصول الدين ص129.
4-
أبو الحسن ابن الزاغوني (ت527هـ) في الإيضاح 281و 284.
5-
الحافظ عبدالغني المقدسي (ت600هـ) في الاقتصاد ص100 و118.
6-
الموفق ابن قدامة المقدسي (620هـ) في ذم التأويل ص 45 والصراط المستقيم ص 44. وهو مبينٌ مفصلٌ لما أطلقه في لمعة الاعتقاد : (وجب إثباته لفظًا وترك التعرض لمعناه (
7-
محمد ابن عبد الهادي (ت744هـ) في الصارم المنكي ص 229
8-
الحافظ ابن رجب (ت795هـ) في الذيل (5/96 وما بعدها(
9-
عبد الباقي المواهبي (ت1071هـ) في العين والأثر ص111
10-
السفاريني (ت1188هـ) في لوامع الأنوار (1/116(

*
رابعًا* :
وهذا خاص في القاضي أبي يعلى (ت٤٥٨هج)  إمام المذهب في زمانه- لأنه المعتمد عند من أطلق دعوى التفويض ونسبها إلى الحنابلة:
القاضي أبو يعلى يَظهر لنا سلوكه مسلك التأويل الأشعري في كتابه المعتمد غالبًا، وأما إبطال التأويلات، والمسائل العقدية من الروايتين والوجهين ففيها من الإثبات ما لا يصحُّ أن يُستخرج منه مسلك التفويض جملة، وإن وقع في التفويض كما في الاستواء حين قال عن أثر أم سلمة ( فقد صرحتْ بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله على العلو والاستيلاء ) لكنه في موضع آخر من نفس الكتاب لا ينفي حمل الاستواء على العلو، مثل ما شبّه إثباته لصفة النزول بغير انتقال خلافًا لشيخه ابن حامد- بإثبات الإمام أحمد للنزول من غير أن يخلو من العرش. [إبطال التأويلات: ص 71، 261].

ولو لم يُثبت معانٍ لهذه الصفات لكان النزول عنده هو المجيء وهو الاستواء.
وكثيرًا ما يحكي تقي الدين ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى أقواله في الأول والآخر، وليس في آخر أقواله ما هو تفويض مطلقًا للمعاني،[انظر مثلاً مجموع الفتاوى 5/523]

*
خامسًا* :
القول في صفة الكلام عند من قال من الحنابلة كأبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم من الحنابلة بأنه: كلام قديم بحرف وصوت دون تعلقه بالمشيئة ..، هذا ليس فيه تفويض، بل هو تأويل كتأويل الأشاعرة له بالكلام النفسي، لأن إثبات الحرف والصوت إثبات مجمل للكلام وإن نفوا تعلقه بالمشيئة فهو جنس تأويل لا جنس تفويض، فمن أراد أن يستدل بصفة الكلام على تفويض الحنابلة فلينسبهم إلى التأويل في هذا وليس إلى التفويض، وإلا لكان الحرف والصوت عند هؤلاء هو النزول والمجيء والرضا والغضب بجامع جهالة المعاني فيها جميعا.

ثم إنَّ القاضي أبا يعلى نصَّ على صحة الرواية عن أحمد أنه قال: يتكلم إذا شاء، لكنه يتأولها فقال: ( لعل هذا القائل من أصحابنا يذهب إلى قول أحمد بن حنبل في رواية عبد الله : لم يزل متكلما إذا شاء . قال: والقائل بهذا قائل بحدوث القرآن وقد تأولنا كلام أحمد يتكلم إذا شاء في أول المسألة ولا يشبه هذا وصفه بالخلق والرزق  ..) [من إبطال التأويلات نقلاً عن مجموع الفتاوى 6/159]
ويُنتبه في قول الحنابلة في صفة الكلام إلى أن أبا العباس ابن تيميّة نقل عن ابن حامد أن قول أصحاب أحمد كقول أحمد فيها. [شرح الأصبهانية ص٢٣٢ و٣٩٣]

ومعوّل دعوى نسبة التفويض إلى الحنابة على صفة الكلام هو على ما أطلقه إمام أشعرية زمانه الفخر الرازي الشافعي (٦٠٦هج) بقالت الحنابلة وذكر قولهم في القرآن [انظر أصول الدين ص٦٣] وكذا الشهرستاني(ت٥٤٨هج) والنسفي(ت٥٠٨هج(  والإيجي(ت٧٥٦هج (

*
سادسًا* :
إذا كنَّا نجد التأويل والتفويض مسلكين متّبعين مقرَّرين عند الأشاعرة، فإنّنا لا نجد التفويض عند الحنابلة، وإنما هي أقوال عند متكلمة الحنابلة غير مطردة، فـ( الأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية - فيما يحتجون به من القياس العقلي - فرع عليهم ) [مجموع الفتاوى 6/54-55]
فهذا هو الأصل في الحنبلية.

*
سابعًا* :
صنّف ابن الجوزي (ت٥٩٧هج) كتابه " دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه " في الرد على الإثبات الذي يُقرره ابن حامد وأبو يعلى وابن الزاغوني حيث قال ابن الجوزي بعد ذكر أسماء الثلاثة: ( فصنفوا كتبًا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحِس ..) ص٩٧
*
فيامن تعتبر ابن حامد وأبا يعلى وابن الزاغوني من رموز الحنابلة المقررين للتفويض هذا هو ابن الجوزي -المقرر للتفويض عندك أيضًا- يعتبرهم شانوا المذهب بالإثبات الذي عنده هو التجسيم !!*

*
ثامنًا* :
التناقض بين الإثبات والنفي لا يُولّد منهجًا مطردًا. فلو كان المعوَّل على دعوى نسبة التفويض إلى الحنابلة على ابن عقيل وابن الجوزي فقط لما صحّ ذلك، حيث إن ابن عقيل وابن الجوزي متناقضون في الإثبات والنفي. وكم أثبت ابن الجوزي من الصفات الخبرية في صيد الخاطر وهو في نفس الكتاب قد شنّع فيه على ابن عبد البر إثباته للاستواء!
فكيف بعد هذا تكون نسبة التفويض إلى الحنابلة مطردة منتظمة وعند طائفة منهم من الاختلاف في المنهج كما عند ابن الجوزي !!

*
تاسعًا* :
إذا كان مسلك التفويض مسلكًا مرضيًا عند الأشاعرة؛ وهو قد قرره الجويني(ت٤٧٨هج) في العقيدة النظامية أنه منهج السلف فلماذا هذا التشنيع على الحنابلة في عقائدهم من قبل الأشاعرة ؟!
ألم يُشنّع أبو نصر ابن القشيري سنة ٤٦٨هج على الحنابلة ويصفهم بالمجسّمة ويحرض نظام الملك عليهم؟ حتى حُبس على إثرها أبو جعفر بن أبي موسى الشريف الهاشمي (ت٤٧٠هج(

ثم كانت بعدها بسنوات قليلة سنة ٤٧٥هج فتنة أبي القاسم البكري الذي حظي من نظام الملك بالتدريس في بغداد فأخذ يحط في خطبه ودروسه من قدر الحنابلة ويصفهم بالمجسّمة حتى قال مرة وهو يُبريء الإمام أحمد من منهج حنابلة زمانه فقال: (والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا ) واشتدت الفتنة !
وكذلك ما جرى لأبي إسماعيل الهروي الحنبلي الأثري من شكاية الأشاعرة (شافعية وأحناف)  -مع تقدير الجويني له- عند السلطان ألب أرسلان وما صنعوا له في المحراب؛ لِما يرمونه به من التجسيم الذي هو الإثبات وليس التفويض ! إذ لو كان تفويضًا لما كان هذا الامتحان له في زمن الجويني.

وكذلك ما جرى  للحافظ عبدالغني المقدسي (ت٦٠٠هج) من أشاعرة دمشق الشافعية تجاهه وتجاه أبناء نجم الدين الحنابلة ليوقعوا بينهم، فشكوهم إلى الوالي وكتبوا قائلين: ( هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة ، واعتقادهم يخالف اعتقادنا ..) حتى أخرجوه لبعلبك ثم لمصر !

لو كان حنابلة تلك الأزمان مفوضة بإطلاق لما حصلت لهم هذه المحن إلا أن يكون تفويض الحنابلة المنسوب لهم تفويضًا مرادفًا للإثبات !

*
عاشرًا* :
يُعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو أوفى من فصل الكلام في عقائد الحنابلة وما نُسب إلى أئمتهم من أقوال في الصفات ؛ فعليه المعول إذ اطلع على ما لم يطلع عليه من بعده من مخالفات الأصحاب ؛ ومع هذا يقول عن أتباع الإمام أحمد: ( فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته.
ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء ) [ بيان تلبيس الجهمية ٣/ ٥٤٩]

أخيرًا:
من خلال قراءة تاريخ الحنابلة العقدي والنظر في تقريراتهم ؛ لا يمكن لبصير أن ينسب التفويض في الصفات للحنابلة منهجًا عقديًا مطردًا، ففي هذا من التجنّي تمامًا كما يفعل بعض المنتسبين للسلف في الحكم بالتعطيل والتجهم لمن وقع في شيء من التأويل .

والله من وراء القصد وهو المستعان