كيف تُصنع الأخلاق اليوم ؟



بسم الله الرحمن الرحيم

كيف تُصنع الأخلاق اليوم ؟
17/ 8/ 1441هـ
توطئة ..

ينقل زكي مبارك في أطروحته ( الأخلاق عند الغزالي ) عن الإمام الغزالي أن الأخلاق وراثية في أصلها، فالطفل يولد ومعه أخلاق أبويه وارثًا لها، ويرى أن الرضاع أيضًا يؤثر في أخلاق الإنسان الذاتية، لكن الأخلاق هنا ميسورة الاقتلاع، فمن هذه الناحية تكون الأخلاق ذاتية في الإنسان، لكن الغلبة عند الغزالي هي في الأخلاق التي يكتسبها الإنسان.

وإذا كانت أخلاقنا أكثرها مكتسبة كما يرى الغزالي- فإن المجتمع والظروف والأصدقاء هم الذين يُكسبوننا أخلاقنا، أيْ أن شخصياتنا مبنية على ظروفنا المحيطة بنا، وظروفنا المحيطة بنا دائمًا ما نتطلع إلى  تغييرها لإيماننا بأنَّ هناك ما هو أفضل. إذن فهل أخلاقنا متطورة غير ثابتة؟
 لنغوص قليلاً في جذور هذه القضية متجاوزين الحديث عن الأدوات كسُلطة الإعلام والمشاهير ونحو ذلك إلى ما هو أكثر عمقًا ..

(1)

الأخلاق تكون فردية أول ما تكون، ثم تكون جماعية بعد ذلك، وبين هذا وذاك مسافة طويلة من المؤثرات النفسية والاجتماعية التي تَعْبُرُ بالخُلُق الفردي ليكون خُلُقًا مجتمعيًا ظاهرًا، فالأخلاق الاجتماعية؛ هي أخلاق فردية في أول أمرها ثم تتحول إلى أخلاق اجتماعية عبر الأفراد المؤثرين بالمجتمع لأسباب لا علاقة لها بالأخلاق.

لكن موضوع الأخلاق يعود في أصله إلى ذات النفس البشرية الكامنة، وإذا سلَّمنا أنَّ النفوس خامات متباينة منها الطيب ومنها الرديء ومنها ما بين ذلك، فإنَّ الأخلاق تكون ذاتية بهذا الاعتبار، ألا ترى ذلك واضحًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنَّ اللهَ خلَقَ آدمَ مِن قبضةٍ قَبَضَها من جميع الأرضِ ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ : جاء منهم الأحمرُ ، والأبيضُ ، والأسودُ ، وبينَ ذلك ، والسَّهلُ ، والحَزْنُ ، والخبيثُ ، والطيِّبُ  )، فالنفس السهلة تُعرف بكلامها وفعالها، وكذا النفس الصعبة، فطباع المرء هي أخلاقه الذاتية المجبول عليها.
ولعل بعد هذا يسأل سائل: هل مشكلة الأخلاق هي في كونها ذاتية أم في كونها مكتسبة؟ وعلى هذا السؤال يخرج سؤال المقال: كيف تُصنع أخلاقنا اليوم؟.

نحن اليوم نعيش في دوائر أخلاقية متداخلة، ومتباينة الحجم، كلها تنعكس على ذات الإنسان، فالدين والعروبة والبيئة (=المدينة والقرية)، كلها دوائر تنعكس أخلاقيًا على شخصية الإنسان، قد تكون هذه الأخلاق تكاملية بين الدوائر، وقد تكون متضادة. وقد تأتي ظروف خارجية تجعل هذه الدائرة هي الدائرة الأكبر تأثيرًا من الدوائر الأخرى. فدائرة البيئة أو العرق قد تتحكم بدائرة تأثير الدين على أخلاق الناس لظروف استثنائية مرحلية، فالشجاعة مثلا- خُلُق ميزانه الإقدام والتضحية حميّةً؛ دون الخضوع لحساب المآلات، مما يعني علو الأقوياء في المجتمع مهما صغُرت عقولهم، وسببُ ذلك هو طغيان منهج أخلاقي معين أوجدته الظروف.

في حين أن دائرة المدنية والتحضّر حينما تتسع وتطوي تحتها دوائر الدين والأعراف ونحوها، ستكون الأخلاق مادية بحتة لأن المدنية لا تقوم إلا على المادة والفردية، فالفرديّة والاستقلالية والأنا هي أخلاق تطغى في الحواضر المدنية على الخُلُق الجمعي. وفي هذه الدائرة تنشط التصرفات الشهوانية باعتبارها حقوقًا فردية، ومع مرور الوقت يتصورها المجتمع أخلاقًا إنسانية. وكم ألقتْ أخلاقياتُ هذه الدائرة على الآداب الشرعية والأوامر والنواهي وصفَ التخلف والرجعية بدعوى التطور والتحضر؟!.
فالظروف التي تجتاح المجتمعات في أحقاب طويلة تكون هي الصانعة لأخلاقها والموجِّهة لِقِيَمِها.

(2)

تُصنع الأخلاق اليوم بدعاوى القِيَم وارتكازِها على المبادئ، فلا أحد يختلف في كل زمان ومكان- على الكليّات الأخلاقية كالعدل والكرم والرحمة ونحوها، ولكن ممارسة الأخلاق تحت هذه الكليّات هي التي يقع منها الإشكال في تفسير هذه الكليّات، وذلك لأن هذه الممارسات تحصر هذه الكليات في أخلاقٍ معينة، فلا يكون الكريم كريمًا حتى يتصرف مثل فلان وهو ليس إلا مبذرًا، ولا تكون الرحمة إلا مع من نحب أو من يوافقنا بمبادئ معينة، ولا نعدل إلا مع الصديق فقط، وهكذا. هكذا تتشوه هذه الكليات بهذا الاختزال، وهكذا يُبرِّرُ أصحابها. ومما تضررت منه المجتمعات أخلاقيًا في سوء الاختزال: دعوى أن الحقوق لا تُنال إلا بالانتزاع والمغالبة، وما سرى هذا الفهم الخاطئ إلا باختزال إقامة العدل والحق في صورة واحدة هي صورة المنازع المناضل الثائر الهائج، فتخلّق لدى العامّة صورة ذهنية بأن هذه الأخلاق هي حق وعدل بسبب هذا الاختزال، وهذه من صور صناعة الأخلاق اليوم.

ومن أبشع ما تعانيه المجتمعات في صناعة الأخلاق هو اعتقاد اطراد الحقِّ والقِيَمِ مع القوَّة، فأين ما وُجِدَتِ القوَّةُ وُجِدَ الحقُّ والصدق والمعادلة الراجحة، حتى صار التسلط على الآخرين ممارسة أخلاقية ظاهرة، لفرض القناعات ، أو لإثبات الذات. 


قد يتصنّع الإنسان الأخلاق ليُثبت ذاته في دائرته المسكونِ بها = عشيرته، أقران الحي، زملاء العمل ..الخ، وسرعان ما تتلاشى هذه الأخلاق.

لكن أن تكون أخلاق التسلط بالقوة لفرض قناعات أو حتى لإحقاق الحق من الممارسات المطلقة بين الناس فهذه آفة على الحق والعدل نفسه قبل أن تكون آفة على حاملها. وكم ضيعت الأخلاق الزائفة من الحق الذي تتذرع به.

وربما نجدُ في هذا الانحراف لمفهوم  الأخلاق وصلته بالقوة النَّفَسَ الدارويني في الأخلاق؛ حيث الانتخاب الطبيعي في الكائنات الحية والبقاء للأقوى والأصلح في الحياة، فكذلك الأخلاق عندهم تكون للأقوى والأبقى، وهذا شيء من الاشتباك المعرفي بين الاتجاه الواقعي التجريبي الغربي في الأخلاق وبين الإلحاد. وهذا ما يقرره الفيلسوف الألماني الملحد فردريك نيتشه المسعور فكريًا- من الإيمان بمنطق القوة في الأخلاق، وأن ليس ثمة أخلاق ذاتية، وإنما هي غرائز ذاتية تفسرها الأخلاق ولا بقاء إلا للخلق القوي كما أنه لا بقاء إلا للجسد القوي.

(3)

من صناعة الأخلاق اليوم؛ ما يصنعه فيك الناس من أخلاق، فقد تُكره على أخلاق يصنعها فيك غيرُك ، حتى تواجه فيها من يحتال عليك أو لا يحترمك أو يُبالغ في التعامل معك أو مع الآخرين. فأنت قد تضطر لخُلُقٍ استثنائي تتقمَّصُه من أجل أن تعالج مشكلة أمامك أو تدرأ بها مفسدة حاصلة، أو تجلب مصلحة متوقعة وهكذا .. وهذه الأخلاق التي تنشأ مقابلةً فيك هي موطأ اختبار صعبٍ، لأنها تقودك إلى أن تكون أنت في أخلاقك كما يفرضها الناس عليك لا كما تريدها أنت، وهذا هو الصراع بين الأخلاق الذاتية والأخلاق المكتسبة.

في حال عزلتك الطويلة ستعود إلى أخلاقك الذاتية وتلك التي اكتسبتها اختيارًا، وستتجرد من أخلاقك التي اكتسبتها اضطرارًا، وحينما تدرك هذا الأمر ستعرف ذاتك أكثر فأكثر.

وهنا يردُ سؤالٌ مُلِحٌّ في هذه النقطة وهو : إذا كان الأفراد المخالطون لمجتمعاتهم هم مجرَّدُ انعكاسٍ لأخلاق المجتمع؛ صنعهم المجتمع بهذه الأخلاق، فلماذا لا نجد تشابهًا كبيرًا بين الناس في أخلاقهم؟ ونجد تباينهم في ردات الفعل الأخلاقية؟ والممارسات المقابلة للأحداث المجتمعية؟

الجواب على هذا السؤال الكبير: هو أن التباين في المشاعر تجاه المجتمع وسياقاته والمؤثرين فيه يصنع أخلاقًا متباينة لكنها تشترك في أنها  أخلاق مكتسبة وليست ذاتية محضة، فالرجل عليم اللسان المؤذي بالكلام أمام الناس يخلق في هذا المداراة، وفي هذا اجتناب مجالسته وأمثاله، وفي الآخر الرد بالمثل كمًّا وكيفًا، وكلها -رغم تباينها-  تشترك بأنها أخلاق انعكاسية، وعلى هذا فقس.

في النهاية أنت كلما أكثرت مخالطة الناس كلما كنتَ ذاتًا انعكاسية لمجتمعك، فإن كان محيطك سليمًا من الأخلاق الانفعالية ستعيش سليمًا من الأخلاق الاضطرارية.

وفي هذه الزاوية من النظر الأخلاقي يتصل الحديث بتأثير الطبقات المجتمعية على الأخلاق، فكما أن المجتمع ينقسم اقتصاديًا واجتماعيًا فهو ينقسم أخلاقيًا بناء على ذلك ، أو بناء على ما يُحتمه ذلك عليهم، فالثراء يؤثر على الذوق والحس وهما يؤثران على أفعال الثري واختياراته في سلامه ومخالطته ونحو هذا، وأبرز خُلُقٍ يورثه الغنى هو الكبر والبطر، إلا من كسر هذا ببُرهان الشريعة ووحي السماء. وفي المقابل نجد الفقر يورث الانكسار في قلب الفقير وهذا يؤثر على أفعاله واختياراته وإن لم تكن صالحةً أحيانًا. وقد تنازع العلماء والفقهاء وأهل السلوك في أيِّهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ هما روايتان عن الإمام أحمد؛ في نزاع طويل كان لابن تيمية رأي جميل فيه ليس هذا مكان بسطه، المهم أننا نجد هنا أن الغنى والفقر لهما تأثير على الأخلاق، فهما يصنعان الأخلاق ويحددان مسار السلوك إما صلاحًا أو فسادًا، وإن كانت الدراسات الراصدة وكذا المشاهدة والواقع- تُشير إلى أن المجتمعات الفقيرة ينتشر فيها أنواع من الأخلاق السيئة التي لا تكون في المجتمعات الغنية.

وفي ما له صلة بهذا الأمر؛ الحديثُ عن أخلاقيات الطبقات النخبوية التي يتحلَّى المنتمون إليها إما طوعًا أو قسرًا لأنفسهم كي لا يخرجوا من أوصاف وأخلاق هذه الطبقة النخبوية، كالتحلي بمظاهر العلم ولغته وأخلاقياته بشكل دائمًا بين طبقات أساتذة الجامعات أو المعاهد البحثية، وهذه دائرة يغلبها الحُسن وإن فسدت النوايا أحيانًا.

(4)

الاختلاف بُوْتَقة الأخلاق (= الصاهر للأخلاق) ومن خلاله تُكتسب الأخلاق عند المتلقي، فكم من أخلاق اكتسبها أحدُنا من اختلافٍ حاصل ظنًّا منه أنه الخلق المناسب لكل اختلاف. وكم من خلافٍ طغت عليه الأخلاق الذاتية ( الطبائع ). ليس المراد هنا بالأخلاق الصادرة أثناء المناظرة والجدال فهذه يحكمها محددات وقتية وعرضية سرعان ما تزول، وإنما أقصد أخلاق المختلفين مع بعضهم في كل وقت وحين، فهذه هي التي يكون الحكم عليها ثابتًا صحيحًا، كخُلُق كُرْهِ المخالفِ كرهًا متلفًا، وخُلُق حمل الحقد على المخالف في كل حالة خلاف وهكذا، ومنهم من يستوعب مخالفه، ويملك عقلاً يحصر الخلاف في مكانه ولا يتجاوزه إلى غيره. 

إننا اليوم نعيش مظاهر اختلافات لا حصر لها، تزداد وتتسع كلما تقدمت بنا مناحي الحياة، وهذا موضوع طويل متشعب أريد من ذِكْرِهِ الإشارة إلى أثره على الأخلاق المكتسبة من المتخالفين، حتى أصبح أحدنا يقلّد الآخر في أخلاقيات الخلاف ظنًّا منه أن المنتصر دائمًا يكون قد انتصر بأخلاقه، دون النظر إلى نوع الخلاف وحقيقته ومساغ وقوعه بين المسلم وأخيه المسلم.



(5)
ومما يصنع أخلاق الناس اليوم كما هو في القديم الاهتمامات بالفنون والعلوم، فهذه مجالات تُكسبُ الإنسان أخلاقًا تتجذر فيه مع طول الزمن، وقد روى غير واحد عن الشافعي أنه قال: (من تعلم القرآن عظُمَتْ قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رَقَّ طبعُهُ، ومن تعلم الحساب تجزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه )، هكذا تنعكس هذه العلوم على أخلاق أفرادها. 

وما أرميه في هذه الإشارة هو صناعة العلم وأهله لأخلاق المتعلمين، فمِن آفته اليوم جعلُ أخلاق أهل العلم سبيلاً إلى إدراك العلم، فلماذا الظاهريون يتسمون بالحِدَّة واللجاج وطول النقاش والتمرد على الفقهاء ألأنَّ طباع ابن حزم هكذا فكان لسانُهُ وسيفُ الحجاج شقيقيْن؟! فلا تُنال مرتبة علم ابن حزمٍ إلا بطباعه وأخلاقه. 

نعم؛ إن طبيعة العزلة والوحدة التي هي موجب التفرغ للعلم والقراءة تنعكس على أخلاق أهلها بمالا تعكسه الخُلطة والمعاشرة، لكن علينا أن نفصل بين طباع العلماء وأخلاقهم وبين العلوم التي برّزوا فيها. وكم في هذا الباب من أمثلة كثيرة. وقد افترض الآجرّي من خلال نصوص الوحيين وسير العلماء ما ينبغي أن يكون عليه العالم في طلبه ومناظرته ومِشيَتِهِ ونحو ذلك فألّف كتابًا سماه أخلاق العلماء.

والأمر ينعكس أيضًا على منهج التثقف والمثاقفة الذي أصبح له مظاهر وأخلاقيات خاصة اليوم عند كثير من الشباب. فارتبطت صورة المثقف بأخلاقيات الأنَفَة والتكبّر من جهة وبالسخرية الدائمة وأساليب الاعتداد بالنفس منطقًا وحركةً من جهة أخرى ، وهذه وراءها أزمة أخلاقية لا أزمة معرفية موضوعية.

خاتمة

ينبغي علينا أن نعلم يقينا أن أعظم سمات الإسلام بين الأمم هي أنه دين الأخلاق، وأعظم أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الرحمة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )، فدعوته وأخلاقه والحق والعدل الذي جاء به كل ذلك موصوف بالرحمة، فانظر كيف دخل كل ذلك تحت الوصف الخُلُقي = الرحمة.
إن خطاب القرآن خطاب أخلاقي، أخذ بتلاليب قلوب من سمعه من صناديد قريش.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الآية ( ولو كنتَ فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة لتكون درسًا للمؤمنين، مع أنها موجهة لأعظم إنسان وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.


نحن بحاجة أن نكون على قدرِ خطاب القرآن والسنّة، فما جاء فيهما من لين فهو سابغٌ علينا، وما فيه من شدةٍ فهو القدر الذي علينا ألا نتجاوزه في أخلاقنا، وانظر في مراتب إنكار المنكر لتعلم أن لكل حالة أخلاقها وسلوكها.


هذا ما أقوله لنفسي ولأهل الإسلام، وبخاصة من يتدثر بدثار الإسلام أمام الناس، لا لمن يبتغي وراء  توماس هوبز أو فريدريك نيتشه أو ديكارت أو فرويد سبيلاً.
 


فاللهم أحسن لنا القصد وبلغنا إياه ..