مناقشة الحسن الددو في مفهوم مصطلح السلف


بسم الله الرحمن الرحيم
 وبه أستعين .. وعليه أتوكل

مناقشة  الحسن الددو في مفهوم مصطلح السلف
أو
محاججة المتقدِّمين للحسن ولد الدّدو حول مذهب السلف

( ليس للصحابة والتابعين مذهب محدود بحد، ولا موصوف بوصف، يُمكن المحاكمة إليه أو الاعتماد عليه، وإنما ذلك موجود في أتباع التابعين وهم المعنيون بمذهب السَّلف )
مابين القوسين هو محصِّلة ونتيجة ومفهوم كلام الشيخ الحسن الددو الشنقيطي في إحدى لقاءاته الأخيرة شعبان 1438هـ- عن معنى مذهب السلف، وهي مسألة من المسائل العقدية التي كثرت فيها مخالفات الشيخ الددو عفا الله عنه.
عنوان اللقاء في اليويتوب : ( العلامة ولد الددو يُصحح خطأ يقع فيه أكثر من 99% من السلفييين )
وهذا نصُّه: ( فالمذهب نسبته إلى السلف بمعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا غير صحيح ، ليس لهم مذهب، فالمذاهب اختراعٌ ناشئٌ عن الحاجة، لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه ولا في عهد التابعين، أول ما نشأت المذاهب في عهد أتباع التابعين ، فلهذا لا يأتي أحد ويقول مذهب السلف يعني مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، هذا غير صحيح، ما لهم مذهب، مذهب السلف إذا أطلق لدى المتكلمين والذين يتكلمون في العقائد فهذا يقصدون به أتباع التابعين...) ثم قال: ( إذا أردنا مثلا تسمية السلف يعني الصحابة سنجد -مذاهبهم وأقوالهم- يختلفون في كثير منها، منها أمور عقدية، كالخلاف هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج أم لم يره بعينيه..) ثم قال: ( لكن الذي ينظر إلى السلف من وجه واحد ويرى أنهم طبعة واحدة وأنهم جميعًا متفقون في كل شيء  هذا يقع في غلط فادح ) ثم ذكر أنَّ المجتهدين من التابعين أكثر من الصحابة، والمجتهدون من أتباع التابعين أكثر من التابعين.
وإليك أخي القاريء مناقشة هذا الكلام ومحاججة المتقدمين للددو فيما قال:

(1)
الصحابة عند الددو- لا يتجاوز من يُعوّل على منهجهم في الفتوى وبيان الاعتقاد ومعرفة الحق من الباطل اثنين وعشرين صحابيًا على أكثر تقدير-. وضِعْفُهم التابعون. وإنما الاجتهاد والتدوين حصل في أتباع التابعين ففيهم كثرة الاجتهاد وكثرة التدوين في مسائل الدين، فهم المقصودون بمذهب السلف عند الشيخ.
يردُّ الإمام الشاطبي (ت790هـ) على هذا ويقول : ( لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفًا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ). الموافقات 4/248
فسمّى الشاطبيُّ الصحابةَ والتابعين بالسلف الصالح .. أولاً..
وجعل منهجهم في فهم كتاب الله تعالى وتفسيره معروفًا ومقدمًا على غيره  ..ثانيًا ..
ثم جعل فيه الهداية التي لا يأتي بها من بعدهم وهو المتفق عليها بين الأئمة .. ثالثًا ..
هذا في كتاب الله تعالى وفهمه فكيف بمسائل الدين الأخرى؟
ومن المعلوم المتفق عليه أن الصحابة اختلفوا في تفسير القرآن ، فلم يكن هذا هادمًا لأن يكون لهم منهج ومذهب يُسمّى مذهب السلف الصالح في تفسير القرآن عند الشاطبي.

(2)
اعتبر الشيخ الددو في لقائه أن مذهب الصحابة والتابعين عائم، لا يُمكن جمعُهُ بأن يكون منهجًا ومذهبًا يَستدِلُّ به الناس حتى يقولوا: هذا مذهب الصحابة .. هذا هو ما عليه أصحاب رسول الله .. لأنّهم اختلفوا في العقائد والسلوك والسياسة .. فهم ليسوا (طبعة واحدة) كما يقول ولا (نسخًا مكررة) كما قرّر .. فجعل الشيخ الددو وجود الخلاف هادمًا لأن يكون للصحابة منهج ومذهب.. واعتبر عدم اتفاقهم في بعض المسائل سببًا لأن لا يقال هذا هو منهج الصحابة !!
 وضرب أمثلة لذلك سوّى فيها بين طرفي الاختلاف، فجعل من يقول من الصحابة وهو ابن عباس- بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين بصره؛ بقدر مستوى قول وفهم من نفى ذلك وهم عائشة وابن مسعود وأبي هريرة وأبي ذر- فسوّى بين الطرفين في القضية وجعلهما بمرتبة واحدة من الاعتبار والاعتداد. كما سوّى بين إنكار ابن مسعود للمعوذتين أن تكونا من القرآن بإطباق الصحابة على أنهما من القرآن، فسوّى بين طرفي القضية مع عدم ثبوتها عن ابن مسعود ..
 هذه هي عين السفسطة التي وصف بها الددو  من ادّعى أنَّ للسلف: الصحابة والتابعين مذهبًا كما قاله في اللقاء-، فوجود الخلاف بين الصحابة صحيح لكن تركيبه بألا يكون لهم منهجٌ عام وقواعد متفق عليها في الاعتقاد والتفسير هذا هو القول الجريء على الصحابة رضوان الله عليهم.
1- فهذا التابعي راشد بن سعد يقول: كان السلف يستحبون الفحولة لأنها أجرى وأجسر. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب الركوب على الدابة الصعبة والفحولة ، فمن يقصد بالسلف إذا عرفنا أنه تابعي؟!
2- وهذا أبو الحسن الأشعري ت324هـ رحمه الله يُطلق اسم السلف على الصحابة فقال في وصف أهل السنة : ( ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله سبحانه لصحبه نبيه ويأخذون بفضائلهم ) مقالات الإسلاميين ص294
3- وهذا الطبري ت311هـ رحمه الله يعتبر للصحابة والتابعين قولاً مجموعًا ومذهبًا متبوعًا في التفسير حين خطّأ من خالفهم في تفسير قوله تعالى (و فيه يعصرون ) فقال: ( وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافُهُ قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين ). جامع البيان 16/132
4- وهذا أبو طالب المكي ت386هـ  جعل للصحابة والتابعين سنّة معلومة وسمّاهم بالسلف حين يصف الإمام مالك بقوله: ( كان مالك أبعد الناس من مذاهب المتكلمين وأشدهم بغضاً للعراقيين: وألزمهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين ). ترتيب المدارك 2/39
5- وهذا إمام الحرمين الجويني ت478هـ يعتبر الصحابة هم من يضبط قواعد الدين ويجتهدون في ذلك، وهل مجموعة الرجال الذين يضبطون قواعد الدين ليس له مذهب يُشار له، ولا يُتحاكم إليه ؟ قال رحمه الله في صفات الله : ( وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعارض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه .. ) العقيدة النظامية ص32 .. و المراد أن الجويني جعل للصحابة منهجًا ومذهبًا يشار له ويحتكم إليه كما احتكم هنا إليه ليُرجّح التفويض على التأويل، وهو في وجه الدلالة خطأ، لكن الدليل قائمٌ باعتبار الجويني أنَّ للصحابة منهجًا ومذهبًا.

6- وهذا الإمام أبو الحسن الكرجي ت532هـ  يعتبر الصحابة هم أساس من يُطلق عليهم السلف، فالسلف عنده الصحابة والتابعون وأتباعهم، قال في رسالته - الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزمًا لذوي البدع والفضول-: ( إن كان السلف صحابيًّا فتأويله مقبول متبع، لأنه شاهد الوحي والتنزيل وعرف التفسير والتأويل .... فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون ) بيان تلبيس الجهمية 6/401.

7- وهذا ابن جهبل ت 733هـ الذي ردّ على شيخ الإسلام ابن تيمية في الصفات يُسمِّي منهج الصحابة والتابعين منهج السلف، وإن كان ابن جهبل قد أخطأ فيما نسبه إليهم؛ إلا أنه يخالف الشيخ الددو في عدم تسميته الصحابة والتابعين بالسلف، ويبطل دعواه بأنهم ليس لهم مذهب ومنهج. انظر رسالته في طبقات السبكي 9/37-42

8- وهذا التفتازاني المتكلِّم ت791هـ سمَّى الصحابة بالسلف في الخلاف الذي أشار إليه الشيخ الددو فقال: ( وما قال به بعض السلف من وقوع الرؤية بالبصر ليلة المعراج فالجمهور على خلافه وقد روي أنه سئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال رأيت ربي بفؤادي وإن الرؤية في المنام فقد حكي القول بها عن كثير من السلف ) شرح المقاصد 2/123

وقبل هذا وذاك .. ما هي الخيرية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال ( خير أمّتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) إذا لم تكن الخيرية في المنهج والمذهب المتَّبع لهؤلاء ممن يأتي بعدهم؟!