زيد الخير الطائي رضي الله عنه في ميزان التاريخ والأدب

زيد الخير الطائي في ميزان التاريخ والأدب

ورقة أُلقيت في مدينة فيد التاريخية بتنظيم النادي الأدبي بحائل

مساء الخميس 10/21/ 1444هـ ضمن ندوة عن زيد الخير رضي الله عنه

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :


موضوع هذه الورقة هو بعنوان: زيد الخيل الطائي في ميزان التاريخ والأدب، والحق أن زيد الخير رضي الله عنه فوق ميزان التاريخ والأدب، لأن يده صافحت يد خير البشر عليه الصلاة والسلام، وعيناه قد قرت بالنظر إلى وجه النبي ﷺ ، فانتقل بذلك إلى أعلى صفحات التاريخ وأشرفها عزة ومكانة وعلوا، وانتهى إلى مجدٍ لم يبلغه طيلة حياته. فلئن كان زيدٌ يطلبُ المجد في فروسيته ومسارح خيوله، وذوده عن حياض الجبلين، ونصرتهِ لمن استجار به؛ فإنه بهذا اللقاء مع النبي ﷺ قد بلغ ذروة سنام المجد ودخل في حمى الصحابة المصونِ شأنهم بأمر الله تعالى ونبيه ﷺ ، حتى كان مما نُسب إليه أنه قال بعد أن أسلم: (وإني أعطي الله عهدًا ألا أقاتل مسلمًا أبدًا )، ويكفي زيدًا فخرًا أن ختم سيرة فروسيته وبطولاته بما نقل ابن سحاق في سيرته عمن لا يتهمه من رجال طيئ أن النبي ﷺ قال لزيد الخيل: ( ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل: فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ).

ولئن طال الحديث عن زيد رضي الله عنه فإنه ينحسر عن خمس مسائل أساسية في سيرته:

أولها: المصادر في سيرة زيد. ثانيها: شخصيته وطبيعته. ثالثها: وفوده على رسول الله ﷺ  ومتى كانت. رابعها: إقطاع النبي ﷺ له فيدًا ومعنى هذا الإقطاع. خامسها: وفاته وقبره رضي الله عنه.

أولاً:  المصادر في سيرة زيد الخيل.

لم يصل لنا شعر زيد الخير الذي هو أهم مصادر سيرة زيد ومعرفة أحواله برواية متصلة موثوقة، ولم يبق من شعره إلا ما ينقله أهل الأدب واللغة كالأصفهاني والجاحظ وابن قتيبة وغيرهم، وكذلك بعض البلدانيين كالبكري وياقوت الحموي. ونسبة هؤلاء الشعر إلى زيد ليست عمدة في الباب، ولهذا لا نجد شعر زيد الخيل في روايات الأصمعي والمفضل الضبي وأبو زيد القرشي ولا ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء الجاهليين. وإنما نجد بعض أبياته عند أبي تمام في وحشياته والبحتري في حماسته. لكن تبقى بعض الأبيات - رغم قلتها - مطابقة لما استفاض من سيرة  زيد الخيل في حروبه ومعاركه وفروسيته مما يعضد لها أن تكون لزيد الخيل. وقد حاول بعض المتأخرين أن يحقق في نسبة الأبيات المنسوبة إلى زيد الخيل، وكان من أفضلهم في نظري ما صنعه أحمد مختار البزرة فإنه قد بذل جهدًا كبيرًا في هذا الأمر.

كذلك نجد في سيرة زيد مع النبي ﷺ أنها قد استفاضت في كتب السير والتاريخ والأدب، ويكفي في مثل هذا الاستفاضةُ والشهرة قبولا لها وإن لم تصلنا بأسانيد متصلة سالمة من الشذوذ والعلة.

ثانيها : شخصيته وطبيعته :

إذا كان الشعر هو المادة الأساسية التي تنقل لنا شخصية زيد الخير رضي الله عنه فإن أكثر ما يدل عليه شعرُ زيد الخيل هو الفروسية المقرونة بالفخر، وكثرة افتخاره بخيله الكثيرة التي لقّب بها، حيث إنها أجلى صفة يتصف بها زيد الخير، حتى بلغ به أن يهدد أقوامًا من وراء أفق بعيد دون أن يكون لذلك حقيقة على أرض الواقع كما يقول بعض النقاد، في قول زيد:  ويومًا باليمامة قد ذبحنا .. حنيفة مثل تذباح النقاد

وبلغ تهديده أحلاف أعدائه كما قال في الخزرج أحلاف غطفان: فمن مبلغٌ عنّي الخزارج غارة .. على حي عوف موجفًا غير نائم

لكن على الحقيقة كانت مضارب غطفان وبني أسد وسُليم والعامريين مسارح خيل زيد ومضرب سيفه ورمحه، حتى سبا من ساداتهم من سبا، فضلاً عن الغنائم التي يفتخر بأخذها منهم. ومن قرأ قصيدته في يوم محجَّر أو قصيدته في اليوم الذي كان بينهم وبين بني كلاب أدرك هذا المعنى في شخصية زيد.

وهناك ناحية أخرى في شخصية زيد رضي الله عنه توضحُ سجاياه المطبوعة وأنه يُكثر الحزّ لكنه لا يخطيء المفاصل، وهي أنه صريحٌ مع أقرب الناس إليه ولو دعى ذلك إلى العتاب أو المناكفة أو القسوة في المعاملة، ففي حروب الفساد بين الطائيين لم يرتضِ زيدًا موقف حاتم الطائي حين وقف على الحياد واعتبر الجميع بمنزلة واحدة، فقال فيه صريحًا: وفرّ من الحرب العوان ولم يكن  .. بها حاتم طبًّا ولا متطببًا ..  فإن أخذ زيدٌ بالحكمة أول الأمر ولم ينشب في هذه الحرب ثم دخل فيها، فحاتم أدرك بكمال حكمته أن آخر الأمر كأوله فاعتزل في بني بدر، ومع هذا قد شدد زيد على حاتم حين قال:  أقم في بني بدر ولا ما يهمّنا .. إذا ما قضت حربُنا أن تطّربا ، أي أن رجوعك من عدمه سيّان في هذا الأمر.

وهكذا كان زيدٌ صريحًا في خلافه مع قيس بن عاصم رضي الله عنه حين أنكر نُصرته له ولقومه، وكذا مع كعب بن زهير رضي الله عنه في حادثة الفرس التي أهداها والده زهير فأنكرها كعب، كان زيد صريحًا شديدًا في المواجهة، وكل ذلك كان قبل الإسلام.

وهناك زاوية أخرى في طبيعة زيد رضي الله عنه يُخبر بها أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني بقوله : ( وهو شاعر مقل مخضرم معدود في الشعراء الفرسان وإنما كان يقول الشعر في غاراته ومفاخراته ومغازيه وأياديه عند من مر عليه وأحسن في قراه إليه ). ومما يقصده أبو الفرج في شعر زيد قوله: وإني ليغشى أبعدُ الحي جفنتي  .. إذا ورق الطلح الطوال تحسّرا

 

 

ثالثها: وفوده على رسول الله ﷺ وفي أي عام كان ذلك.

تظافرت كتب السيرة أن وفد طيء إلى النبي ﷺ كان عام الوفود، وعامُ الوفود هو العام التاسع للهجرة، وكان وفد طيء بزعامة زيد الخيل رضي الله عنه، وقد عددت كتب السير من كان معه من رجال طيء، لكن جاء في الصحيحين أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث وهو باليمن بذهبة في تربها إلى النبي ﷺ فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري وزيد الخير، فغضبت قريش لأنه أعطى صناديد العرب وأخبرهم النبي ﷺ أنه يـالفهم، والحديث مشهور بحديث المؤلفة، من العلماء من قال إن هؤلاء لم يسلموا وكان يتألفهم رسول الله ، ومنهم من قال إنهم حديثوا عهد بإسلام. وكان أول ما بعث النبي ﷺ عليا إلى اليمن، كان سنة ثمان للهجرة. فإذا كان وفود زيد الخيل إلى النبيﷺ إنما كان مرة واحدة فهل كان وفد طيء سنة ثمان للهجرة قبل عام الوفود فيكون زيد الخيل أسلم قبل عام الوفود؟ أم أن هذه الحادثة مع المؤلفة كانت في عام الوفود وليست عام ثمانية للهجرة؟.. الله أعلم في ذلك.

رابعها: إقطاع النبي ﷺ له فيدًا ومفهوم هذا الإقطاع.

من المتقرر تاريخيًا وبلدانيًا أن جبل سلمى وما حولها هي مواطن بني نبهان، كما يقول زيد الخيل: نزلنا بين فيد والخلافى .. بحي ذي مدارأة شديدِ. كما جاء على وجه التفصيل عدة مواضع في هذه الأماكن مصرحة أنها لبني نبهان، كالحوراء التي قال الأصمعي أنها ماء لبني نبهان، ومنازل خالد بن سدوس النبهاني إلى جبل تنوف غرب جبل سلمى وغيرها.

وزيد الخيل لم يفد إلى النبي ﷺ إلا في آخر حياته ، وفيها أقطعه النبي ﷺ فيدًا، وأرضين معه، وفي رواية: وقرى معه. ومن المعلوم وما استفاضت به كتب السيرة أن زيد الخيل أدركته الحمّى وهو عائدٌ إلى الجبلين ومات بفردة على ما سيأتي الكلام عنه، وكان يتوجد على مواطن قومه بقوله: سقى الله ما بين القفيل فطابة .. فما دون أرمام فما فوق منشد

فما معنى هذا الإقطاع لزيد الخيل ؟  وهي أرضه وأرض قومه قبل أن يفد إلى النبي ﷺ ؟ ولماذا لم يُقطع النبي ﷺ عدي بن حاتم لما وفد بعد ذلك أرضا له من الجبلين ؟ وهل كان النبي ﷺ يُقطع من يفد إليه من العرب أرضه التي جاء منها؟ هذه مسألة تحتاج إلى تحرير وتوضيح في معنى الإقطاع، هل هو الإقرار على ما كان عليه، وهذا لم يرد عنه ﷺ ولم يمنع النبي ﷺ قومًا من العرب أرضهم. كما أن بلاد زيد الخير ليست متنازعًا عليها بينه وبين قومه أو بينه وبين بني أسد حتى يطلب من النبي ﷺ أن يقطعها إياه. أم أن الإقطاع هنا هو بمعنى أن يكون عاملاً للنبي ﷺ في أرض قومه، ومسؤولاً عن الصدقة ونحو هذا، ومع أن هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب إلا أنه ضعيف من حيث الواقع، فللنبي ﷺ عمال على الصدقات لم يقطعهم أراضي قومهم. لهذا يبقى داعي الإقطاع وسببه فيه شيء من الغموض وعدم الوضوح فيما أرى والله أعلم.

خامسها: وفاته ومكان قبره رضي الله عنه .

استفاضت السيرة بأن زيد الخير أقام بالمدينة أيامًا عدة جاء في شعره أنه 14 يومًا كما قال في أبياته:

أنيخت، بآطام المدينة، أربعا ... وعشرا، يغنّي فوقها الليل طائرُ

فلما قضى أصحابنا كلّ بغية، ... وخطّ كتابا في الصحيفة ساطر

شددت عليها رحلها وشليلها ... من الدرس والشَّعْراء، والبطن ضامر

 كما استفاضت كتب السير بأن زيدًا لما خرج من عند رسول الله ﷺ راجعا إلى قومه قال رسول الله ﷺ: إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه -أي لا أظنه ناج-، فلما انتهى إلى ماء فردة أصابته الحمى بها فمات بهاه.

في عام 1384هـ كتب الشيخ علي الصالح السالم البنيان نبذة تاريخية مختصرة عن حائل استجابة لطلب أحد أساتذة كلية الآداب في جامعة الملك سعود وقتها. نشرها الشيخ حمد الجاسر في مجلة العرب بعد ذلك.. وكان مما كتب الشيخ علي في هذه الرسالة: ( وفيها - أي حائل- قبر زيد الخير، وقبره موجود بفردات وهي هضاب جنوب قرية سميراء تسمى بهذا الاسم إلى اليوم ). ولا شك أن هذا وهم من الشيخ علي الصالح رحمه الله ، فجبل فردة معلوم قديمًا وحديثًا وهي التي تُسمّى بفردات كل جبل يقال لها فردة . والشيخ علي هنا التبس عليه الأمر إمّا أنه اشتبه عليع فردات بواردات التي هي غرب سميراء، لكنه هو يقول جنوب سميراء، أو أنه وقف على نص ياقوت والأصفهاني في بلاد العرب حينما قالوا: فردة ماء في أسفل الثلبوت، والثلبوت هو وادي الشعبة الآن عليه جبال لا يزال يقال لها الثلابيت عند اتجاه الوادي جنوبًا، وهو جنوب سميراء إلى الغرب. والتحقيق أن زيدًا مات في فردة التي هي قرب محجّر المسمّى اليوم بالمسمْى، لأن زيدًا تجنّب  منازل قيس كما نقل الأصفهاني في الأغاني ما قاله زيد الخيل حين قفل عائدًا من المدينة ( إني قد أثرت في هذا الحي من قيس آثارا -يقصد بهم غطفان فهم من قيس عيلان-، ولست أشك في قتالهم إياي إن مررتُ بهم، وإني أعطي الله عهدًا ألا أقاتل مسلمًا أبدًا، فتنكبوا به عن أرضهم وأخذوا به على ناحية من طريق طي، حتى انتهوا إلى فردة، وهو ماء من مياه جرم، أخذته الحمّى فمكث ثلاثا فمات ..). وكل ما بين الجبلين والمدينة هو من ديار غطفان التي هي من قيس عيلان وأقله من جهة الشرق لبني أسد، لكن الذي يؤكد أن مكان موت زيد الخيل هو في فردة التي قريبة من محجّر ثلاثة أمور: 1- تنصيص ياقوت الحموي أن قبر زيد بفردة التي هي ماء لجرم طيء، 2- أن زيدًا مات في ديار طيء ومعه قبيصة بن الأسود الجرمي في دياره، وسميراء وجنوبها ليس من ديار طيء في وقت زيد الخيل، 3- أن زيدًا يتوجد بأبياته على منازله البعيدة عنه عند موته، وليست سميراء بعيدة عن بلدته فيد حتى يتوجد عليها ويطلبها.