هل يصح وصف الليبراليين والعصرانيين بالمعتزلة الجدد؟


1433هـ

هل يصحُّ علميًّا وصف الليبراليين أو العصرانيين أو الحداثيين بالمعتزلة الجدد ؟

الحمدُ لله حقَّ حمدهِ وأوفاهُ، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على رسول الله، أمَّا بعد:
فأطرحُ بدايةً هاتين المقدمتين:
المقدمة الأولى: العصرانيُّون يؤمنون بالنقل ويُخضعونه للعقل، فيسلكون مسلك التأويل.
المقدمة الثانية: الليبراليون لا يؤمنون إلا بالعقل، حيث لا نقل عندهم.
النتيجة: العصرانيون والليبراليون ليس عندهم نصٌّ مقدَّس في اللفظ والمعنى.
هاتان المقدمتان والنتيجة هما لمنهجين يجمعهما وصف الحداثة في كل مناحي الحياة:
العصرانية: وهي مسلك حديث في الفكر، يلبس لباس الإسلام، بالروح الفلسفية والحضارة الغربية، ويذيب مقابل ذلك كل ما دلت عليه النصوص. ومن نماذجه: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، خالص جلبي.
 ويؤمن أصحاب هذه المدرسة بأنهم مفكرون إسلاميون.
والليبرالية: وهي منهج فكري يقوم على الحرية الفردية في كل مناحي الحياة سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا. وينأى أصحاب هذا المنهج بأنفسهم عن أي انتساب فكري إلا لليبرالية.
وقد يكون من المسلمين من خلط بين المنهجين والمذهبين، فيكون أكثره عصرنةً من كونه ليبراليًا، ولهذا أسباب ليس هذا مكان ذكرها.
وهذان المذهبان على اتساعٍ في تشخيصهما واتفاقٍ فيما بينهما حيث يقتربان كثيرًا في النتائج؛ هل يصحُّ وصف أربابهما بالمعتزلة الجدد؟ أو جعلهما المذهب الحديث للمعتزلة القدماء؟ كما جاء في وصف بعض طلبة العلم الشرعيين لهذين المذهبين.
حينما نُفرِّق بين العصرانية والليبرالية كمصطلحين افترقا استقرائيًا بمجموع وسائلهما، فإنَّنا ننظر أيضًا إلى المعتزلة كمصطلحٍ بمجموع أفكاره.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
( إن الاعتقادات قد تؤثر في الأحكام الشرعية فهذه أيضا الناس فيها طرفان ووسط :
الطرف الأول : طرف الزنادقة الإباحية الكافرة بالشرائع والوعيد والعقاب في الدار الآخرة الذين يرون أن هذه الأحكام تتبع الاعتقاد مطلقا. والاعتقاد هو المؤثر فيها فلا يكون الشيء واجبًا إلا عند من اعتقد تحريمه، ويرون أن الوعيد الذي يلحق هؤلاء هو عذاب نفوسهم بما اعتقدوه ..، وقد يقول حذاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون وهم غالية المرجئة : إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة
الطرف الثاني : طرف الغالية المتشددين الذين لا يرون للاعتقاد أثرًا في الأفعال بل يقول غاليتهم كقوم من متكلمة المعتزلة : إن لله حكما في كل فعل من أخطأه كان آثما معاقبا فيرون المسلم العالم المجتهد متى خفي عليه دليل شرعي وقد اجتهد واستفرغ وسعه في طلب حكم الله أنه آثم معاقب على خطئه فهذا قولهم في الاجتهاد والاعتقاد ثم إذا ترك واجبا أو فعل محرما قالوا بنفوذ الوعيد فيه فيوجبون تخليد فساق أهل الملة في النار وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج ولكن الخوارج يكفرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم . وأما المعتزلة فيقولون : هو في منزلة بين منزلتين لا مؤمن ولا كافر ) الفتاوى 19/151.

فالمعتزلة انطلقت في أول نشأتها وعيدية في باب الأسماء والأحكام، ترى فاعل الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا هو مسلم ولا كافر في الدنيا، وفي الآخرة كافر مخلد في النار.
ثم تبعت المعتزلةُ الجهميةَ بعد أن ظهر قولها في مسائل نفي الصفات التي نشأ عنها القول بخلق القرآن وإنكار الرؤية ونحوها. وإلا لم يكن المعتزلة الأوائل يقولون بخلق القرآن كما قال ابن القيم في نونيته:
هذي مقالة كلِّ جهميٍّ وهمْ     فيها الشيوخ معلِّموا الصبيان
لكنَّ أهلَ الاعتزال قديمهم    لم يذهبوا ذا المذهب الشيطانيْ
وإنما كان ظهورهم أول الأمر بسبب وعيديتهم التي هي من طرف الغلو والتشدد لا من طرف التزندق والإباحية . ثم لحق المعتزلةُ الجهميةَ بباب التعطيل ونفي الصفات ومنها القول بخلق القرآن.
لكن المعتزلة خالفت الجهمية في أبواب  أخرى من أهم أبواب الاعتقاد:
-      في باب القدر، فالمعتزلةُ قدرية نفاة، والجهمية جبرية.
-      في باب الأسماء والأحكام، فالمعتزلة وعيدية، يرون الإيمان قول وعمل، والجهمية مرجئة يرون الإيمان هو المعرفة أو التصديق.
وهذان البابان تقع عندهما حقيقة مقارنة العصرانيين والليبراليين بالمذاهب القديمة، هل يوافقون المعتزلة أم الجهمية في تقريراتهم؟.
إنَّ الطرح العصراني والليبرالي والحداثي من المسلمين عمومًا في المسائل الدينية هو طرحُ زندقة وإباحة، كطرح الجهمية في باب الإيمان، وهو طرحٌ يلغي جوانب الوعيدية التي هي سمة المعتزلة.
 وسمات الطرح الحداثي ( العصراني والليبرالي ) -الذي هو جهميٌّ ليس معتزلي في الحقيقة- يظهر وفق ما يلي:
1- جعل الإيمان مجرد المعرفة في القلب كما هو مذهب الجهمية المرجئة، هو سمةُ تصحيحِ كثير من العصرانيين والليبراليين إيمان أصحاب الأديان السماوية الثلاثة وصحة من انتسب إليها، والدعوة إلى التقريب بينها. بجامع أنَّها كلها تشترك في المعرفة والتصديق.
وهو يخالف أصول المعتزلة الذين يرون أنَّ الإيمان قول وعمل، لا يكفي فيه المعرفة ولا التصديق. بل إن المعتزلة اختلفوا على أكثر من خمسة أقوالٍ ليس كلها تجعل الفرائض والأوامر من أصل الإيمان الذي إذا ذهبت ذهب الإيمان كلُّه.
2- كون العمل ليس من الإيمان كما هو مذهب الجهمية المرجئة، هو سمة تقريرِ كثير من العصرانيين والليبراليين في إلغاء المكفِّرات ونواقض الإيمان، والتهوين من الطاعات، والسخرية من رقِّ الإنسان للخطيئة ومبدأ الثواب والعقاب الأخروي.
بخلاف المعتزلة الذين تشددوا في مسألة الوعيد فكفَّروا مرتكب الكبيرة. بل إنَّ لهم نصوص في تشديد العقوبة ومضاعفتها على من تاب وعاد.
3- قول الجهمية في القدر وأنَّ الإنسان مجبور، هو سمةُ طرح بعض العصرانيين والليبراليين في نفي التوكل، ونفي تأثير الاستعانة بالله تعالى. وكذلك سمة لاحتجاجهم باتباع الإنسان ما يهواه وترك التديُّن، وأنَّ الفطرة والذات مجبورة على ذلك قدرًا.
4- حكاية بعض غلاة المرجئة القدماء كأصحاب محمد بن شبيب في قولهم: ( وأمَّا ما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء، فإنَّ الرادَّ للحق لا يكفر وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يرد على رسول الله ما جاء به من عند الله سبحانه ولا على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم صلى الله عليه و سلم ونصوا عليه. والخضوع لله هو ترك الاستكبار، وزعموا أنَّ إبليس قد عرف الله سبحانه وأقر به وإنما كان كافرًا لأنَّه استكبر ) مقالات الإسلاميين ص 1/137.
هذا القول هو من جنس كلام العصرانيين والليبراليين في أنَّ الرادَّ للحق ما لم يكن مقتنعًا به، أو أنَّ حريته دعته إلى غير ذلك لا يعتبر كافرًا بالله ولا برسوله، ولا مرتدًا عن دين الله. وأنَّ العقل يسعه أن يقبل أو يرد مثل هذا.
وهذا المبدأ لا تجده عند المعتزلة الوعيدية، الذين تشددوا في التكفير.
أمَّا عن تقديم المعتزلة للعقل على النقل فإنِّي أراه السبب الوحيد الذي جعل البعض يصفُ العصرانيين والليبراليين من المسلمين بالمعتزلة الجدد.
وهو ما يصعبُ ربط التشابه بينهما لأمرين:
1- مبدأ تقديم العقل على النقل عند المعتزلة هو في باب الصفات فوقعوا بالتعطيل عند تأويل نصوصها. أمَّا العصرانيون والليبراليون فإنَّ أهم ما قدَّموا وعظموا فيه العقل وأبطلوا وأولوا النقل فهو في باب الأسماء والأحكام، وكذلك باب النبوات والغيبيات. فقد تبع أكثر العصرانيين آراء الفلاسفة المنتسبين للإسلام في أنَّ الأنبياء مجيئهم كان لتهذيب البشرية، وأنَّ الذات الإنسانية لا تسير إلا وِفْقَ مُثُلٍ بشرية فقط. وفي الغيبيات نجد أنَّ كثيرًا من العصرانيين وجُلَّ الليبراليين يقفون موقف الإنكار بل والاستهجان من نصوص مسائل عذاب القبر ووقوع العين والسحر وعالم الجن ونحوها. وهذا التقرير لا يسير مع المعتزلة الوعيدية.
فمبدأ تقديم العقل على النقل في باب الإيمان والأحكام عند المعتزلة يختلف عن موقف العصرانيين والليبراليين، مما له أثرٌ في الأحكام بين الفئتين.
2- أن المعتزلة عندهم آيات محكمات، فقول الله تعالى ( ومن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا فجزاؤه جهنَّم خالدًا فيها ..) من الآيات المحكمات. يقول الإسكافي من المعتزلة عن قول الله تعالى (آيات محكمات هنَّ أم الكتاب) قال: (هي التي لا تأويل لها غير تنزيلها ولا يحتمل ظاهرها في السمع المعاني المختلفة).
والمعتزلة أيضًا يبنون من وراء هذا الآيات المحكمة حقيقةً معنوية ثابتة وإن كانت مخالفة لنصوص أخرى من التنزيل لم يعملوا بها جهلاً وغلوًا. يقول أبو بكر الأصم من المعتزلة: (قال الله سبحانه آيات محكمات هنَّ أُمُّ الكتاب أي الأصل الذي لو فكرتم فيه عرفتم أنَّ كل شيء جاءكم به محمدٌ حق من عند الله سبحانه).
بينما العصرانيون جوَّزوا أن يكون القرآن كله من المتشابه الذي يجوز أن يكون له أكثر من معنى وتأويل. ومعنى هذا ألا يكون هناك للآيات معانٍ ثابتة عندهم.
ومن تأمَّل كلام محمد عبده والأفغاني وغيرهم ممَّن خلط بين العصرنة والليبرالية كمحمد عابد الجابري وأركون ونحوهم يجد في تفسيراتهم للمكفرات والغيبيات عدم ثبوتها على حقيقة واحدة، فيقبلون كلَّ تأويلٍ من المذاهب، ويصححون ما يدرُج عليه المتصوفة والمتكلمون والفلاسفة.
 أمَّا الليبراليون من المسلمين فالأصل ألا نصَّ عندهم مقابل الحرية الفردية، لكن قد يسلك كثير منهم مسلك العصرانيين في هذا كما سبقت الإشارة إليه.
بعد هذا أصلُ إلى النتيجة التي هي أنَّ العصرانيين والليبراليين من المسلمين هم الجهمية الجدد، لا المعتزلة الجدد. وهم المذهب الحديث للجهمية لا المعتزلة.
والحمد لله رب العالمين.