سلوة النفس الكؤود في سيرة الشيخ محمد بن فرهود

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم فأحسن عملا ... أما بعد:
ففي صبيحة هذا اليوم - يوم عيد الفطر من عام أربعة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية توفيَ فضيلة الشيخ الصابر المحتسب محمد بن عبد الله فرهود -الحلَبي- رحمه الله رحمةً واسعة عن عمرٍ يناهز الخامسة والثمانين عامًا . والشيخ صفحة مرّت عليها المأساة والغربة والحاجة مع الرغبة في العلم والتعليم. كما أنَّه لم يَحظ بعناية طلبة العلم به، عاش في حائل محبًا لها ولأهلها كما ستقرأ ذلك.  قضى الشيخ نصف عمره الباقي في حائل وتوفي بها. وفي نفثة مصدور عن الشام وما فعل به طغاته على مر السنين تمنّى وأنا أسمع- أن يقبضه الله في هذه البلاد.
وقد كتبَ الشيخ بخطِّ يده سيرته في صفحات. وقبل أن أنقلها لك أود أن أكتبَ ما لم يكتبه الشيخ عن نفسه، وما رأيتُهُ ورآه غيري منه- وقد يكون عند غيري ما هو أدق وأكمل- ، لأنَّ الشيخ انقطع عن التدريس والإمامة فطرة طويلة، وقد انعكست عليه وعلى الجيل المتأخر من الشباب لعدم معرفتهم به .
وما أنشره ليس إلا وفاءً لهذا الشيخ الجليل، وذكرى  عطرة لمن لم يعرفه من أبناء هذا الجيل، مؤمِّلاً أن تبقى سيرته عطرةً بين نفحات سير أهل العلم والدين ، راجيًا ممّن عرف الشيخ أن يُقدِّمَ له بعد ما فارقنا ما يسرُّه في قبره ، فللشيخ حق كبير على حائل وأهلها ، والله المستعان.
رُزئت لفقدك حائلٌ وجبالها  **   وتوشَّحت حزنًا بيوم العيدِ
وانهدّ من حصن الفضائل ركنُها  ** تغدو المدائنُ بعدكم كالبيدِ
فبمثلك الصبرُ المعظّم يُرتجى  ** مِن عندِ مبدئ خلقه ومعيدِ
.....
* الشيخ رحمه الله مدرسة في التواضع، ولين الجانب، وحسن القول ، صبورٌ على لواء أصابته في بلاده، وضيق وغربة هنا.
* ولد الشيخ في مدينة حلب الشهباء في حدود عام 1930م، في بيتٍ سيصفه لك الشيخ بنفسه. وحلب هي من مدن العلم وأهله في بلاد الشام.
* مِن أكثر مَن تأثر بهم الشيخ شيخه محمد راغب الطباخ رحمه الله محدث الشام المشهور، وقد أجازه بمروياته.وقرأ عليه في البخاري ومسلم والشمائل المحمدية وغيرها.
وممَّن حضر الشيخُ مجالسَهم واستفاد منهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، ومن هذه المجالس التصقت معرفته ببلديِّه الشيخ عبدالفتاح أبو غدّه رحمه الله، وقد حدثني بذلك مرارًا. وهذه لم يكتبها الشيخ في سيرته لأن الشيخ كتب من درّسه في الثانوية والجامعة. وقد كان الشيخ أبو غدة يديم السؤال عن شيخنا محمد وهو في الرياض، والتقيا أكثر من مرّة في السعودية، غير أنَّ الصلة التي كانت بينهم هي صلة مودّة أهل البلدة الواحدة.
* الشيخ عالم في علوم اللغة؛ في النحو والبلاغة، ويهتمّ بعلم الاشتقاق، ولا يدع من يتحدث إليه بالفصيح يلحن، وأمَّا من يخلط الفصيح بالعامية فلا يرد عليه بشيء. ولو قُدِّر لي أن أكتب عنه ما صحَّحه من الألفاظ المشتهرة على الألسن لجاءت في صفحات.
* الشيخ نشأ على المذهب الحنفي، وفي الجامعة درس الفقه على المذاهب الأربعة، والشيخ يهتم بالألغاز الفقهية.
* نشأ الشيخ في بيئة أشعرية فيها تصوف، وكانت دراسته الجامعية في كلية الشريعة بدمشق سببًا لتمسُّكه بمنهج السلف الصالح في الاعتقاد.
ومن المواقف المؤثرة التي سمعتها من الشيخ؛ أنَّه دخل كليَّة الشريعة وابنُ تيميَّة عنده رجلٌ منحرفٌ ضالٌّ في كتبه وردوده بسببِ ما كان يسمعه من بعض المشايخ المتعصبين، يقول الشيخ: ( فما تخرَّجتُ من كلية الشريعة إلا وابنُ تيميَّة من أحبِّ العلماء إليَّ بسبب قراءتي لكتبه بتجرّد ). وهذه الحكاية حجرةٌ أضعها في فمِ من يحاول التشكيك في عقيدة الشيخ رحمه الله.
* قُتل للشيخ ولدان ( عبد الله وأنس ) قتلتهم جيوش الطاغية حافظ الأسد في أحداث مجزرة حماة مابين 1980- 1982م. وكان لمجرد ذكر هذه الحادثة يتأثر الشيخ رحمه الله فلم أشأ أن أسأله عن تفاصيلها.
* تولى الشيخ التدريس في مدارس تحفيظ القرآن ثم في كلية المعلمين بحائل، وتولَّى الإمامة والخطابة في جامع عيسى المهوس (جامع سوق الخضار) فترة طويلة.
* وكان الشيخ يُلقي دروسًا في المسجد وفي البيوت، وقرأ عليه عدد  من طلاب العلم في حائل واستفادوا منه خصوصًا في النحو واللغة. وممَّا قُرئ عليه وشرحه الشيخ: الآجرومية،  قطر الندى، ألفية ابن مالك، مقامات الحريري وغيرها من كتب اللغة.
* لم يهتم الشيخ بالإسناد رغم تلقيه عن شيخه راغب الطباخ محدث الشام الإجازة في مروياته وغيره، ولم يكن يجيز على طريقة المجيزين بأن يكتب إسناده كاملاً. وذكر لي أنّ إجازاته كانت مكتوبة عنده لكنه لم يهتم بها وضاعت.
وقد أخذ عنه الإجازة عدد من المشايخ وطلاب العلم، منهم: الشيخ المسند صالح العصيمي، والشيخ الحنبلي محمد بن ناصر العجمي الكويتي، والشيخ محمد زياد التكلة وغيرهم، هؤلاء رحلوا إليه في حائل ، وغيرهم.
وأتركك الآن مع ترجمة الشيخ لنفسه الموجزة التي كتبها بيده في 16/8/1424هـ  - وستراها مرفقة- :
( اسمي محمد عبد الله فرهود، سوري الجنسية، من مدينة حلب، وانحدرت من أسرة فقيرة ليست ذات حظٍّ من الثراء. ووالدي رحمه الله لم يكن من أهل العلم، بيد أنه كان محبًا لأهل العلم، وكان يحرص كل الحرص أن أرافقه لحضور حلقات العلم وسماع المواعظ والرقائق، فنلتُ الفوائد الجمَّة من أولئك المشايخ وأنا في نعومة أظفاري. ثم دخلتُ المدرسة الابتدائية ( سيف الدولة ) وأكملتُ فيها تحصيلي من هذه المدرسة. وأتيح لي أن ألتحق بمعهد شرعي يُسمَّى آنذاك ( الكلية الشرعية )، قوام الدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية بالإضافة إلى العلوم الأخرى ونهلتُ من هذه العلوم على نخبة من العلماء الأفذاذ والمشايخ الأعلام، أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر: الشيخ محمد راغب الطباخ، مدرس الحديث الشريف ومصطلح الحديث والتاريخ، وله مؤلفات كثيرة وتحقيقات تشهد بغزارة علمه وعلوِّ كعبه. والشيخ محمد أبو الخير زين العابدين مدرس العقيدة وكان راسخًا في العلم، والشيخ نجيب الخياطة مدرس  التجويد والفرائض، وكان عملاقًا في كل ما يدرس. والشيخ محمد الملاح مدرس النحو والبلاغة والعروض، فكان حاذقًا في كل ما يُدرسه. والأستاذ عبدالرحمن الباشا كان يُدرِّس الأدب العربي كأنَّه جدول رقراق، وغير هؤلاء من الأساتذة القديرين. أسبغ الله عليهم رحمته.
لما فرغتُ من دراستي في الكلية الشرعية كانت نفسي توّاقة إلى الدراسة في الأزهر ، لكن افتُتحت كلية الشريعة في جامعة دمشق سنة 1954م، فأغنتني عن الذهاب إلى مصر. وجزى الله من سعى إلى إنشاء هذه الكلية التي كانت صرحًا علميًا سامقًا، ويسر الله لي الالتحاق بهذه الكلية، من أبرز أعلام الكلية حينذاك الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي درّس الفقه، والشيخ مصطفى الزرقا الذي درّس الأصول، والشيخ محمد المبارك درّس فقه اللغة ونظام الإسلام، والدكتور أبو اليسر عابدين درسنا النحو . وآخرون. وارتشفتُ من مناهل هؤلاء الأعلام، وحصلتُ على شهادة (ليسانس) وانخرطت في سلك التعليم. درّستُ أولا في مدينة دير الزور ولبثتُ في هذه المدينة سنتين من سنة 1959م حتى سنة 1961م، ثم نُقلت إلى مسقط رأسي مدينة حلب حتى سنة 1970م.
1390هـ ذهبت إعارة إلى المملكة العربية السعودية فدرّست في منطقة القصيم أربع سنوات، كانت سنوات خصبة، تعرفت  خلالها على أساتذة أجلاء وأصدقاء أوفياء، فكانوا خير نموذج يُحتذى. حتى إذا انصرمت سنوات الإعارة رجعتُ إلى بلدي. لكن نفسي كانت تشرئبُّ إلى العودة إلى المملكة العربية السعودية حيث تكتحلُ عيناي بالحج والعمرة، وقد تحققت ما كانت تهفوا إليه نفسي فعدتُّ كرةً أخرى وكان حظي مدينة حائل مدينة حاتم الطائي حيث درّست في ثانوية تحفيظ القرآن  من سنة 1400هـ حتى 1413هـثم انتقلتُ على كلية المعلمين حتى 1419هـ، ثم انتقلت كفالتي إلى جمعية تحفيظ القرآن لأكون فيها موجهًا ومستشارًا تعليميًا.
لله درُّ أهل حائل فيهم الأصالة والخلق الأشم والوفاء .... ).
رحم الله الشيخ محمد فرهود، وجعله مع أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلحٍ منضود وظل ممدودٍ وماء مسكوب وفاكهة كثيرة .. وجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه
حسان بن إبراهيم بن عبدالرحمن الرديعان
بعد عشاء يوم عيد الفطر عام 1434هـ